مكتبة خراب داريا ...
من هم هؤلاء، مهربو الكتب تحت القصف، في وسط حصار مدينة داريا السورية التي ظلت تقاوم حتى الرمق الأخير؟ هل يمكن إنقاذ الكتب من بين الركام والخرائب، بينما البشر جميعاً أو من بقي منهم في قلب الحصار، عرضة للقتل تحت قذائف النظام السوري وبراميله الحارقة؟ خاطر هؤلاء الشبان المقاومون فعلاً، جاوروا الموت وواجهوا ظلاميي الداخل وطلائع البعث من الخارج، وراحوا يبنون قلعتهم التي من كتب وورق وسموها مكتبة داريا السرية.
قد يكون كتاب “مهربو الكتب في داريا- مكتبة سرية في سورية” للكاتبة والصحافية الفرنسية دلفين مينوي (دار سوي، باريس) من أجمل ما كتب عن سوريا أخيراً وأجرأ وأطرف… كتاب بين السرد والتوثيق، واقعي وصادم في واقعيته، حقيقي و “استغرابي” من شدة ما يحمل من وقائع قد لا تصدق. شاهدت الصحافية الشهيرة المناصرة لقضايا الثورة السورية، صاحبة كتاب “أكتب لكم من طهران” (2015) على إحدى صفحات الـ “فايسبوك” صورة لشبان سوريين في داريا يجمعون الكتب من تحت الأنقاض، فاستوقفتها وسرعان ما راسلت عبر الإنترنت أصدقاء لها هناك مستوضحة إياهم، فحدثوها عن مبادرة يقوم بها نحو أربعين شاباً من المعارضة غايتهم جمع الكتب من بين الأنقاض ومن البيوت المهدمة من أجل إنشاء مكتبة عامة داخل داريا المحاصرة. راقتها الفكرة ومضت في تأليف كتابها متكئة على شهادات جمعتها من هؤلاء الشبان عبر المراسلات اليومية ولم توفر حتى تقنية “السكايب”. اصبح بعض هؤلاء الشبان أصدقاءها، وأوردت أسماءهم: أحمد ، عمر، حسام، أبو مالك… ونقل هؤلاء لها أيضاً مجرى الحياة اليومية في داريا وما يعاني أهلها المحاصرون وهم يقاربون اثني عشر ألف شخص، من خوف وفقر وجوع، خصوصاً بعدما اعتمد النظام خطة التجويع أو الحصار التجويعي. ويغطي الكتاب السنوات الأربع التي حوصرت فيها داريا، من 2012 حتى 2016 قبل إجلاء المواطنين عبر خطة رسمت خطوطها دولياً. كانت تلك السنوات الأربع، بحسب ما دونت الكاتبة ووثقت وسردت على لسان الشهود، من أقسى سنوات الحصار في سوريا، مارس النظام خلالها أقصى بربريته، قصفاً وفتكاً وتدميراً، مستخدماً كل أسلحته، ومنها الكيماوي وبراميل البارود والقذائف…
لم يكن على أولئك الشبان المقاومين والمنتفضين إلا أن يبتدعوا داخل الحصار فكرة المقاومة بالقراءة والكتب، فشرعوا يجوبون الخرائب والركام لإنقاذ ما أمكنهم من كتب ومجلدات، يجمعونها ويرممونها ويوضبونها، وبنوا ما يشبه المكتبة العامة في أحد الملاجئ السفلية البعيدة من خطر القصف، وعمدوا إلى تصنيف الكتب وتدوين أسماء أصحابها على صفحاتها الأولى، آملين بأن هؤلاء سوف يستعيدونها يوماً ما، عندما يعودون إلى مدينتهم. لكن الجيش السوري الذي احتل المدينة بعد إجلاء المقاومين، نهب المكتبة وأحرق ما أحرق منها، كما تقول الكاتبة. كان الشبان وبعض المواطنين يلتقون يومياً في المكتبة السرية، يقرأون على ضوء النيون الاصطناعي، يتناقشون، يتبادلون الآراء ويتعلمون. استحالت هذه المكتبة قلعة صمود، في كل ما يعني الصمود، أمنياً ورمزياً وثقافياً. أصبحت المكتبة هذه عالماً بذاته، رقعة جغرافية خارج الحرب وداخلها في آن، فضاء من الحرية الحقيقية: لا بعث هنا ولا داعش ولا رقابة ولا خوف ولا مطاردة… كانت الكتب بمثابة خشبة إنقاذ والكلمات جسراً إلى زمن آخر وأحلام وأمنيات. كان الشبان يقرأون ليس قضاءً للوقت وقتلاً للسأم وهروباً من الواقع المرير فقط، بل لإيجاد معنى لحياتهم هناك أو صيغة لوجودهم الذي يحاصره الموت ويتهدده. الكتب وحدها قادرة على ردع الهيمنة البعثية والظلامية والعنف، وعلى فتح أبواب الأمل. إنها وجه من وجوه المقاومة الحقيقية.
تصف الكاتبة دلفين منوي أجواء داريا وكأنها تكتب من هناك وليس من إسطنبول التي لجأت إليها لتكون قريبة من سوريا وثوارها. دقة في الوصف، حذاقة في السرد وبراعة في نقل التفاصيل… عطفاً على أسلوب بديع، روائي وشاعري، متماسك وعاطفي أحياناً: “هؤلاء الشبان يجاورون الموت ليل نهار، ومعظمهم فقدوا كل شيء، بيوتهم، أصدقاءهم، أهلهم”، تكتب دلفين، وتضيف: “وسط الركام يتمسكون بالكتب كما لو أنهم بالحياة يتمسكون. في عيونهم يلمع الأمل بأيام أفضل… إنهم الصناع السريون لمثال ديموقراطي، مثال يتكوّن، يواجه طغيان النظام”.
ترى ماذا ينفع إنقاذ الكتب بينما يستحيل إنقاذ البشر من الموت؟ ترد دلفين منوي على مثل هذا السؤال الحرج في كتابها البديع، بل تؤكد أن إنقاذ الكتب يوازي إنقاذ البشر فهو إنقاذ لهم. ولئن قيل إن من ينقذ إنساناً ينقذ البشرية جمعاء، فيمكن القول أيضاً: من ينقذ كتاباً ينقذ إنساناً. تكتب دلفين: “راهن بشار الأسد عل دفن أهل داريا كلهم أحياء. راهن على دفن المدينة وسكانها الأخيرين، بيوتها، أشجارها، كتبها… ولكن من بين الأنقاض نبتت قلعة من ورق، مكتبة داريا السرية”.