عمرها 9 سنوات موهوبة وتنقل بفرشاتها معاناة السوريين للعالم
لا تتذكّر ماريا وقتاً كانت فيه بلادها دون حرب، فعندما كانت في الثالثة من عمرها اندلعت الحرب في سوريا.
عندما تُسأل إذا كانت تعرف ماهية الحرب، ترسم ماريا فراغاً، ثم تقول بعد لحظات: “تحدث الحرب عندما يتوقف الناس عن حب بعضهم البعض”.
ماريا البرغوثي هي فنانة سورية تبلغ من العمر ثمانية أعوام ونصف العام، هذا العمر الصغير الذي تعلن عنه بفخر وابتسامة عريضة خلال حوار موقع ميدل إيست آي معها عبر برنامج سكايب.
وبينما تتساقط القنابل على المناطق المحلية المجاورة وتنتشر التقارير الإخبارية حول دفن الأطفال تحت الأنقاض، تبدو حياة هذه الفنانة الصغيرة آمنة نسبياً. تجلس في غرفتها ومعها فرشاتها، لكن الألوان المائية ليس بمقدورها إطفاء نيران مدينة حلب التي تبعد حوالي خمس ساعات عن مسقط رأسها في مدينة دمشق.
لم يحد هذا من قدرة ماريا على التحليق بمخيلتها ورسم موضوعات مستلهمة من واقع يحيط بها في سوريا ولا مفر منه. بوجهها الذي يشع براءة[/dt_quote]
طبيعة الحياة في سوريا
تثير أعمالها الفنية المشاعر وترسم صورة عن طبيعة الحياة التي يمكن أن تعيشها طفلة في بلد دمّرته الحرب. ضربات فرشاتها الخفيفة مثقلة بمعان، تحاور هؤلاء الذين يعون حقيقة العالم الذي يحيط بها.
ويعلق مستخدمو فيسبوك على صورة عمل فني لماريا البرغوثي على صفحتها في محاولة البحث عن معنى أو مغزى لما ترسمه.
أحدهم قال “أعتقد أنها تحاول تضميد جراح الوطن بعد أن تمزق إلى أشلاء. لقد دمروا الجمال والتراث، قتلوا أبناءنا وهجّروا عائلاتنا”. وتكهن بعض المعلقين بأنها ربما تحاول جبر خاطر قلوبهم المكسورة.
في سن السادسة، أمسكت ماريا أقلام التلوين الخاصة بها مدفوعة بتصميم وحماس أشعلته مشاهدتها المتواصلة لوالدها وهو يرسم.
تقول: “اعتدت مشاهدة والدي يرسم طوال الوقت وقررت تقليده. في أحد الأيام، انتظرت عودته من العمل وفاجأته برسمة لي، فأحبها. يعلق أبي أحياناً على رسوماتي كي أتعلم من أخطائي ولا أكررها مرة أخرى”.
يفضل والدها باسم البرغوثي، أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة دمشق، إبقاء ماريا بعيداً عن نشرات الأخبار. يقول إن حياتها الحالية أكثر أماناً من المناطق الأخرى التي يعيش بها بعض أقاربهم. لذا ماريا لا تسمع سوى ما تصفه بـ”الضوضاء البعيدة” للقصف الجوي.
يعتقد باسم بأنهم ما يزالون محظوظين لقدرتهم على امتلاك المواد الفنية اللازمة لماريا في ظل ظروف الحرب التي تحيط بهم.
بات من الصعب تأجيل أي مناقشات حول الحرب. يناقش معلّمو ماريا وزملائها في المدرسة الموضوع دون تعمق في التفاصيل، وفقاً لوالدها.
وعلى النقيض من العديد من الأطفال في مثل عمرها والذين اضطروا إلى الهروب من المعارك الدائرة في المدن المجاورة، لا تزال ماريا تنعم بالقدرة على الذهاب إلى المدرسة، تستمتع بالدراسة وبرؤية أصدقائها وتحب دروس العلوم والفن.
عندما سألناها ما هو أفضل شيء تحبه في حصة العلوم، أجابت” يطلب مني المعلم دائماً أن أرسم أعضاء جسم الإنسان للتحضير للحصة القادمة. أحب هذا”.
تحظى ماريا بتقدير بالغ على الإنترنت. فقد لقبها البعض بـ”ملكة الألوان” و”ذات الأيدي السحرية” و”أصابع من ذهب” ويعبر لها العديد من المعجبين عن تقديرهم لفنها في كل مرة تنشر رسمة جديدة لها.
يقول أحد معجبيها على فيسبوك “إلى الطفلة الموهوبة ماريا، أتابع أعمالك بشغف، ينتظرك مستقبل باهر”.
وكتب آخر “نحن مبهورون. موهبتك العظيمة تلهمنا” وأضاف آخر “ليست هناك كلمات كافية أصف بها أعمالك الفنية”.
إلهام العظماء القدامى
وتشمل أعمالها الفنية رسومات عن الطبيعة والحياة الصامتة والصور الشخصية. فلدى الطفلة ذات العينين البنيتين الواسعتين تجارب عديدة مع الألوان وأساليب الرسم المختلفة، وهي تنتقل بمرونة بين مدرسة فنية وأخرى.
بدأت ماريا مؤخراً تجربة الرسم بالألوان المائية، وهي تجربه تقول إنها تستمتع بها كثيراً. ولا تتبع ماريا نظاماً معيناً في الرسم، فهي ترسم ما يحلو لها كل يوم، ثم تشرع في تلوينه.
تقول” أستمتع برسم المناظر الطبيعية بقدر استمتاعي برسم الناس والأشياء، لكنني أكنّ حباً خاصاً لرسم البحر، رغم أنني لم أزره منذ زمن طويل ولا أتذكره”.
ويقول والدها باسم: “غالباً ما تستخدم عماتها وأعمامها وأصدقائها كعناصر وموضوعات للوحاتها مع استخدام أساليب مختلفة في الرسم. فأحياناً ترسم الشخصيات على شكل رسوم كاريكاتورية وأحياناً أخرى تتبع الأسلوب التجريدي مع إضفاء لمسة من أسلوب بيكاسو”.
وكجزء من دراستها، أنتجت ماريا رسومات لهانز بورمان ولوحة المرأة الفلاحة لفان غوغ وبورتريهاً للفنان أرماند رولين وغيرها.
وفقاً لوالدتها، لا تحاول ماريا عن قصد اتباع أسلوب فنانين بعينهم لشهرتهم، لكنها تبحث على الإنترنت بمساعدة والديها عن أعمالٍ فنية وتختار ما يعجبها لترسمه بعد ذلك، لقد صادف أن غالبية اختياراتها كانت لفان غوغ وبيكاسو.
ويحاول والدها دفعها لاستكشاف موضوعات وأساليب جديدة. كما حرص على تعريفها بأعمال فنانين سوريين وفلسطينيين رائدين.
وتقول ماريا: “أحب رسم أعمال لـ لؤي كيالي وإسماعيل شموط وممدوح قشلان. أستمتع بنسخ أعمالهم”.
لا تحب ماريا نسخ أعمال غيرها من الفنانين كما هي. لكنها تحاول إضفاء أسلوبها الشخصي وإضافة عناصرها الخاصة إلى اللوحات كتغيير الألوان وأسلوب الرسم. بمرور الوقت، باتت ماريا ترسم بإلهام من موضوعات الفنانين الآخرين المشهورين مثل لوحة زهور عباد الشمس لفان غوغ.
لم يحد هذا من قدرة ماريا على التحليق بمخيلتها ورسم موضوعات مستلهمة من واقع يحيط بها في سوريا ولا مفر منه. بوجهها الذي يشع براءة، ترفع أحدث لوحاتها لنشاهدها عبر كاميرا سكايب وتقول “هذه امرأة تحمل طفلها في مخيم للاجئين. إنها حزينة لأنها اضطرت إلى ترك بيتها”.
إن تعبيرات وجه السيدة المرسومة في اللوحة قوية، ترمز إلى أكثر من 6.5 ملايين سوري نازحين داخل الأراضي السورية و 4.8 ملايين لاجئ فروا من البلاد منذ اندلاع الحرب في 2011.
ما بعد الحرب
وفي سلسلة رسائل إلكترونية متبادلة، عبر سعد القاسم، فنان بصري سوري وناقد فني، عن إعجابه بموهبة ماريا التي تفوق عمرها الصغير بعد رؤية أعمالها الفنية على فيسبوك.
وقال “ليس هناك غبار على المهارات الفنية والتقنية المتقدمة لماريا خاصة بالنسبة لطفلة في مثل عمرها. لقد طورت من تذوقها للألوان وكيفية استخدامها”.
ويتابع قاسم، الذي يرأس رابطة الباحثين والنقاد بسوريا: “بالرغم من براعتها في تعلم أساليب الرسم، ينبغي عليها الابتعاد عن نسخ أعمال فنانين آخرين والبدء في تشكيل هويتها الفنية المستقلة وأسلوبها الخاص، ولا أشك في قدرتها على تحقيق هذا”.
باتت موهبة ماريا معترفاً بها في دوائر فنية أوسع مع عرض أعمالها في معارض مختلفة خلال العامين الماضيين. فقد عرضت أعمال فنية لها في مدينة ميلان بإيطاليا ضمن حملة جمع أموال لصالح أطفال غزة. وتنظم رابطة القاسم هذه الحملات بهدف توفير مبادرات تعليمية للفلسطينيين في مختلف مناطق العالم.
ووفقاً لوالديها، شجع عميد كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق ماريا للمشاركة في مزاد بالكلية لجمع أموال لصالح الأطفال الذين قتلوا خلال الحرب.
كما شاركت مؤخراً في مسابقة فنية للأطفال على الإنترنت، وفازت بالجائزة الأولى.
وتعيش ماريا حياة طبيعية نسبياً في بلد تطحنه الحرب. ففي الوقت الذي لا ترسم فيه، تشاهد ماريا قناة الكرتون “سبيستون” أو تساعد أمها في المطبخ أو تلعب مع أصدقائها بالقرب من منزلها.
يغلب على ماريا الخجل وتجد صعوبة في التعبير عن نفسها باستخدام الكلمات، وهو أمر قد لا تحتاجه عندما ترسم. لكنها لم تقرر بعد ما الذي تريد أن تكونه عندما تكبر. فكما توضح “ما يزال أمامها الكثير من الوقت لتقرر هذا”.
يتأرجح مستقبلها المهني بين خيارين: إما أن تكون مهندسة معمارية كوالدها أو تكون فنانة مشهورة. ليس هناك سقفٌ لأحلام ماريا، رغم الظروف التي تحيط بها.