النمل ..( قصة قصيرة ) لـ : حميد الزاملي
ألقت عليهم تحية الوداع قرب زهرة الصباح هائلة الحمرة، مشت فوق أوراقها لحظة مغادرتهم باتجاه الطريق الرئيسي الموازي للبحر، لأول مرة منذ سنوات تتخلف عن الذهاب مع أفراد مملكتها الذين تقاطروا خارج أوكارهم منذ الفجر بتنظيم ونشاط واضح، ابتسمت مثلما فعلت قبل قليل وهم يتراصفون بنسق طويل للاستماع لوصاياها التي اختصرتها بضرورة الابتعاد عن الأنهار والأسواق المزدحمة بالمارة والالتزام بتوجيهات قائدهم ورعاية بعضهم البعض، منذ إشرافها المباشر على رحيلهم قبل أيام والملكة لم تخرج من بيتها الملكي.
المرة الأخيرة التي تجولت فيها خارج مسكنها لوقت طويل كانت أثناء مسير أبناء مملكتها بانسيابية وتنظيم، ساروا خلف قائدهم متقاربين من بعضهم البعض، قطعوا مسافات طويلة وتجاوزوا بركا مائية متعددة من خلال الجسور السريعة التي اقامتها مجموعة مختصة منهم باستخدام القش وبقايا الأعواد اليابسة، يتكاملون سريعا ويعودون إلى حالتهم المنسقة بعد إتمام عبورهم، انتصف النهار وهم يسيرون بمحاذاة البيوت، توقفوا أكثر من مرة لاستلام توجيهات القائد الذي يؤدي مهمته الأولى خارج المملكة، تشاور مع مجموعة عمل الجسور أولا ومن ثم ناقش الأمراء وكبار السن حول إيجاد الحلول المناسبة لتخطي الطرقات المحفورة وبرك الماء المنتشرة في ازقة المدينة وساحاتها الترابية، تنسيق القائد وتبادله الآراء معهم جعلهم يشيدون به فيما بينهم، قدموا له الشكر والعرفان حين أصدر المزيد من الاوامر للمجموعة التي تقبع في ذيل القافلة والمختصة بالإسعافات الأولية وحمل المرضى، مشددا على ضرورة الاستعداد لقضاء الاستراحة وسط المدينة، وافقت النملات كبار السن على التوقف بشرط توفر المكان البارد، هز القائد رأسه موافقا على اختيار مسبح النساء الصيفي الذي استطلعته النملات من جميع الجوانب، اقتربوا من البستان الكبير المحاذي للشارع الفرعي المؤدي للمسبح ثم انحرفوا نحو الباب الرئيسي الذي تسلقوه بناء على الإشارة المتفق عليها، الكثير منهم صاروا بمواجهة قاعة المسبح الصيفي التي تعج بالنسوة اللواتي كن يتقافزن إلى الماء بدعابات مسموعة وضحكات عالية متبادلة، خفتت حركة بعض الذين رافقوا القائد داخل الغرف، ساروا فوق الجدران المدهونة بأصباغ وردية غامقة تكثر فيها الثياب والسراويل المعلقة بمسامير متجاورة ذات رؤوس محدبة، كان الجدار القريب من الباب مزدحما بالمناشف المختلفة الأطوال، بينما حوى الجدار المقابل لباحة المسبح الداخلية على أنواع مختلفة من قمصان الستان. وحده الجدار البعيد يبدو مغايرا، فقد لونته حمالات الصدور والسراويل الداخلية بمختلف أنواعها وماركاتها ومقاساتها وألوانها ونقوشها، اقتربت عدة نملات من السقف ثم عادت مستندة برؤوس المسامير القليلة الشاغرة، فيما واصلت أعداد أخرى زحفها باتجاه الجدار الوردي الغامق الذي تفوح منه روائح الأشياء المعلقة، توزع النمل بهدوء في ثنايا الملابس والمناشف والقمصان وحمالات الصدور والملابس الداخلية، كان بعض النمل في بداية غفوته وسط ضحكات النسوة اللواتي بدأن الخروج من المسبح، بدا التعب والاختناق واضحا على شيوخ النمل وباتت الأوقات المشحونة بالترقب والقلق تتوضح على العجائز كلما تعجلت النسوة ارتداء ملابسهن، ملامسات أصابعهن السريعة حفزت القائد على الحركة والتخلص من خيوط السروال الداخلي الأبيض الموشح بقلوب حمراء، كان يتطلع بحذر لأجساد النسوة العاريات اللواتي يقفن قرب ملابسهن المملوءة بالنمل، ارسل إشارة الانسحاب قبل أن يتهاوى سريعا صوب الجزء العميق من السروال الصغير، تعلق بشعيرات قصيرة وظل يتارجح عدة مرات، لمح أعدادا من أصدقائه وهم يسيرون فوق السيقان والاذرع البضة المنهمكة بارتداء ملابسها بعجالة، زحف نحو الضوء المتسرب الذي احدثته جلستها المفاجئة وانحسار حافة لباسها الداخلي الشفاف، شاهد تناثر أعداد كبيرة من النمل تحت الأقدام، خاطب المجموعة المنتشرة في خيوط حمالات الصدور الخلفية بدون جدوى، بكى لمنظر صديقه ومستودع أسراره المدعوس تحت ابط المرأة الشقراء، قرص الفسحة المتاحة تحت أطرافه من جلد المرأة المشغولة بالحديث والضحك مع صاحباتها، تسلق قليلا للأعلى حينما هرشت بأظافرها الوردية تلك المنطقة، قام بقفزات متعددة داخل السروال الأبيض، صار بعيدا عن أفراد مملكته الذين كانوا قبل ساعة من الآن يمشون فوق الملابس والسراويل الداخلية القصيرة المعلقة في جدران غرف الحمام، أخذ يستعيد أنفاسه شيئا فشيئا حين أصبح قريبا من أعلى القلب المنقوش في الجهة العليا من اللباس الداخلي، اغمض عينيه متحسسا بأقدامه فسحة الجلد الأبيض التي كانت تلامس ظهره بين الفينة والأخرى، قال: ” ليتني ادركت هذه الأمكنة من قبل” حبس أنفاسه عندما تعالت ضحكات النسوة واغانيهن وهن يتعجلن الذهاب لبيوتهن، تحدثن عن متعة الماء والشمس والقرصات العفوية التي تأتيهن بين الحين والاخر، خلعن ملابسهن مرة أخرى في غرف نومهن، كان القائد متشبثا بنفس مكانه حين قفزت صاحبة السروال الأبيض ذي القلوب الحمراء إلى سريرها، كور أطرافه حين تمددت قبل اقتراب المساء بقليل، غطت جسدها الممشوق بقماش ناعم، تشبث بزاويته نفسها بدون حركة بالرغم من استماعه للأنفاس المتلاحقة المخلوطة مع صفير الريح القادمة من النافذة. في تلك الأوقات التي تاه فيها النمل بين ألوان الفيروز وخيوط القماش المتنوعة كانت عدة نملات تتسلل هاربة من حمالة الصدر السوداء ، ليال عديدة وهن يواصلن المسير والعودة الى مملكتهن البعيدة، كن في سكون تام وسط ديارهن ، ينصتن بمهابة لحديث النملة العجوز عن ذلك الصباح الذي سارت فيه قافلتهن بقيادة ذلك الشاب ، تفرقن بطريقة سريعة في اروقة قاعة العرش الملكية اثناء كلماتها الحزينة عن مغادرة الملكة الام قبل ساعات من الآن بحثا عن القافلة التي يقودها الابن.