الرسالة الخفية للصعقة الكهربائية
شعب المولدات والبطاريات
سأبدأ بقولي؛ إن السوريين شعب المولدات الكهربائية. وذلك رغم معرفتي بوجود شعوب منكوبة أخرى تنازعه على اللقب.. صديق أخبرني بأنه ما إن يدخل شخص إلى أحد محلات بيع المولدات بالجملة، في الصين، محجّ التجار السوريين لتبضع كل شيء،أو الهند الأقرب، أو فيتنام التي تلون كل مصنوعاتها بالبرتقالي كعلامة تجارية فارقة، و يبدي رغبته بشراء كمية منها، حتى يعرفوا مباشرة أنه سوري، ويطلبوا منه الجلوس واحتساء الشاي، بانتظار مدير التسويق.
تفوقت سوريا على نكبتها، وحققت رقماً قياسياً متقدماً في عدد المولدات التي دخلتها؛ الصغيرة التي يحتاجها الناس للأغراض المنزلية، فلا يجدون لها مكاناً سوى شرفات بيوتهم، دون اكتراث براحة جيرانهم، وحاجة أبنائهم للدراسة فترة الامتحانات، والمولدات المتوسطة التي تحتاجها المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي والمهن التقليدية كالنجارة والحدادة التي لم تنتقل للمنطقة الصناعية بعد، والمولدات الصفراء الضخمة، الأقرب لكتل البناء، التي رخصتها الدولة لبيع الأمبيرات لمن يستطيع دفع تكاليفها الباهظة. وجميعها لامكان لها سوى الأرصفة، فإن مضيت إلى السوق لابتياع غرض ما، أو فقط تعبره متجهاً لمكان ما، فستمشي والأرض تهتزّ من تحت قدميك، ورائحة البنزين والمازوت المحروق تملأ رئتيك، وخليط من الأزيز والزعيق والنهيق يسد أذنيك، ويجعلك لا تسمع شيئاً على الإطلاق، سوى صوتك يقول:”أيّ مكان هذا.. على الأرض!؟”.
كما أن السوريين، أيضاً، شعب البطاريات، خبراء بمواصفاتها وأصنافها، السائلة والجافة والهلامية، الوطنية والصينية والهندية، والتي يريك البائع اسم (كوريا) بالخط الأحمر العريض على واجهتها، ولكن إياك أن تصدق! السريعة الشحن والبطيئة التفريغ، الصغيرة، بدءاً من 5 أو 10 أمبير، لأجهزة الإنارة الصغيرة، إلى المتوسطة 200 أمبير، للتلفزيون والإضاءة المنزلية، إلى الكبيرة 600 أمبير، التي تسمح بتشغيل المكيف والبراد ومحرك رفع المياه، ولكن كلّاً على حدة.
حمّى الليدّات
من رحمة الله وحسن تدبيره، أن الأزمة السورية -مع الاعتذار عن اضطراري لاستخدام هذا التعبير- ترافقت مع انتشار الليدّات الضوئية. فما كنت لترى، وأنت ذاهب لشرائها، سوى أناس يعبرون الشارع، أو يركبون حافلات النقل العامة، أو يقودون الدراجات الهوائية، وبأيديهم قضبان الليدّات، وقد ابتاعوها مع بطارياتها وشواحنها وكابلاتها وملاقطها، وهاهم يمضون بها لتبديد الظلام الذي يعمّ بيوتهم.
محطة نووية صغيرة
ولا أدري مدى دقة ما قاله لي مهندس كهربائي حلبي، إنه بقيمة هذه المولدات والبطاريات والشواحن والمحولات، كان بإمكان السوريين أن ينشئوا محطة نووية صغيرة، بالماء الخفيف لتوليد كهرباء.كما أني لا أنسى قولاً آخر له؛ هو أنه لم يعرف سوريا التي يتكلمون عنها، قبل معرفته اللاذقية.
الصعقة الكهربائية
اقترب السوريون من نهاية السنة السابعة وهم يولدون ويحيون ويموتون على نظام التقنين الكهربائي؛ فبسبب استيلاء الإرهابيين على محطة وقود.. أو تفجيرهم لأنبوب غاز.. أو احتلالهم لحقل نفط.. أو تأخر وصول سفينة الفيول.. أو توقف دعم الدول الصديقة.. أو لسبب مجهول لايعرفه أحد، يصل التقنين إلى 5 ساعات إطفاء، ساعة واحدة كهرباء -أتكلم عن المناطق التي يفترض أنها مدعومة من قبل النظام، مقابل ما تهبه من أرواح أبنائها- إلاّ أنه سرعان ماكان يعود إلى 4 ساعات إطفاء، ساعتين كهرباء، ثم إلى 3 ساعات إطفاء، 3 ساعات كهرباء، ويالها من نعمة كبرى.
فإذ فجأة، ودون أي إنذار، يتوقّف التقنين! لا بمناسبة عيد أو احتفال، ليوم وليومين، بل منذ بداية الشهر العاشر لليوم. ونستطيع أن نحصر ثلاثة تأثيرات لهذه الصعقة:
التأثير المادي: بدءاً من التجار الذين استوردوا واشتروا كل هذه الكميات من المولدات والبطاريات. مروراً بالذين صارت الكهرباء الرديفة عملهم ومورد رزقهم، وصولاً إلى الناس العاديين الذين تكلفوا ماتكلفوا لشرائها، وبات واجباً عليهم، أن يقننوا بأنفسهم، ويقوموا بتفريغ البطارية يومياً، خشية انفجارها واحتراق بيوتهم، كما حصل في بيوت عديدة. وأخيراً؛ إلى شريحة لابأس بها ممن حوّلوا مدخراتهم المالية إلى العملة الصعبة، فقد حدث عند إلغاء التقنين أن انخفض سعر الدولار من 550 ل.س إلى 480 ل.س ما جعل الكثيرين، وصفوا بالحشود في بعض وسائل الإعلام، يصطفون بالدور أمام البنوك والمصارف الحكومية، التي يسمح لها بتبديل العملات الصعبة، دون السؤال عن مصدرها، وبأسعار تزيد عن سعر السوق السوداء بما يقارب 3%.
التأثير النفسي: تحوّل التقنين إلى نمط حياة لدى السوريين! يوقِّتون نومهم واستيقاظهم وغسلهم وطبخهم وخروجهم إلى أعمالهم وعودتهم إلى بيوتهم تبعاً لمعادلاته. لهذا لم يكن سهلاً أن يقفزوا إلى نمط حياتي آخر معاكس 100%. في البداية لم يصدقوا، ثم راحوا يشعرون بأن شيئاً صدمهم وهزّ ما اعتادوا عليه وتأقلموا معه، فتمنّوا لو حدث تدريجياً، وكأن التقنين هو الوضع الطبيعي المفتقد. ما أعاد للذاكرة المثل الشعبي المعروف: “غير المعتاد على البخور يحرق مؤخرته”.
التأثير السياسي: وهنا تكمن الرسالة غير الخفية للنظام؛ التأثير على نظرة السوريين للأحداث، الذين وجدوا أنفسهم يواجهون لغزين؛ فإما أن النظام كان يستطيع إلغاء التقنين في أي وقت، وكان يستخدمه لغاية ما؟، وإما أنه استطاع أخيراً الانتصار، والتحكم بكل شيء، كما وعد مراراً. وفي كلا الأمرين، لسان حال واحد؛ وهو أنه قادر على إعادة البلد لسابق عهدها، وكأن شيئاً لم يكن. ولكن ما صعقني بدوري؛ أنني قابلت سوريين كثيرين.. يصدقون!؟.