في سيريا وايز .. سعد فنصة: لم أكن لأقبل قتل المتظاهرين المطالبين بحياة أفضل

كاتب وباحث ومصور ومؤسس ومالك دار واشنطن لنشر الكتب الورقية.  عمل لفترة تقارب 30 عامًا في المجال الأثري، إضافة لعمله مديرًا لقسم التصوير العلمي للآثار السورية بالمديرية العامة الآثار والمتاحف . عمل في الصحافة اللبنانية والعربية منذ اواسط الثمانينات . كما عمل مديرا للتصوير والتوثيق الاثري في متحف دمشق الوطني اضافة لعمله محاضرا في معهد الاثار .له العديد من المؤلفات والابحاث والمعارض والمحاضرات . كما صور واخرج فيلمين وثائقيين عن الاثار السورية. حائز على جوائز وبراءات تقدير من مختلف المراكز والهيئات العربية والدولية في فن التصوير الفوتوغرافي.

زارت SYRIAWISE  سعد فنصة بمنزله في العاصمة الأمريكية وكان هذا الحوار :

أنت من سلالة عائلة ذات تاريخ سياسي قديم وكانت بعض شخصيات عائلتكم على صلة وثيقة في مراكز صنع القرار بعد الإستقلال من الإستعمار الفرنسي . هل ساعدك هذا الإرث أن تتابع هذا النهج في عهد حافظ الاسد وإبنه بشار ؟

لا .. ولا مطلقة .. لأن من كان أكبر مني خبرة وتاريخا وتراثا وطنيا او سياسيا قام نظام البعث ومن ثم الحكم العائلي الأسري لحافظ الاسد ومن بعده وريث حكم الطائفة بتحيَده عن أي مشهد سياسي او اعلامي او حتى علمي ..

أسوأ ما قام به هذا الحكم المافيوي اللصوصي هو ابادة الطبقة الوسطى التي ينتمي اليها شرائح المجتمع السوري بغالبيته، وتهجير الرموز الانسانية الوطنية الكبرى من سورية منذ عهد شعارات البعث، والاستعانة بحثالة المجتمع في الرقص والتهريج وممارسة كل انواع النفاق لحكم الاسدين .. طوال نصف قرن من كل ممارسات الافقار والنهب للثروة القومية السورية.

ماهي أهمية الآثار لتعميق مفهوم المواطنة ؟

الآثار ذاكرة إنسان هذه الأرض .. وتراثه الحضاري دون شعارات شوفينية .. إنه الكشف المبكر عن دوره الانساني المتسع في هذه المنطقة التي قدمت الانسانية اعظم الابتكارات التي غيرت ثقافة العالم .. مع تراكم الحضارات الأخرى في بقع مختلفة من العالم .. لا أعتقد ان هناك دور لموضوع المواطنة في قضية الآثار بقدر ما أراها من زاوية مختلفة اعمق واهم بكثير من موضوع المواطنة .. كباحث ومنقب سابق ودارس لحضارات الارض السورية ..

إن الشعب الذي لا تربطه بآثاره وأولاده ذكريات متوارثة لهو شعب دخيل عليه، وهو أبعد ما يكون عن حماية ذلك التراث

هل تعتقد أن الأجيال المعاصرة في سوريا قد وصلت إليها حقيقة الحضارة السورية كما يجب أم تم التعتيم على المواضيع التي تؤثر غلى الوضع الداخلي والخارجي في سوريا ؟

مشكلة أنظمة التخلف الشعاراتي – البعث وأشباهه من انظمة مماثلة- بأن تحيد المفاهيم العلمية والتاريخية الحقيقية لصالح صناعة الخرافة السياسية او الشوفينية الدينية وبناء أساطير خرافية جديدة يقبل بها العقل المستلب ..

لقد دُمرت سوريا اليوم وبرأيي عن عمد  .. وأعتقد ان هذه العقلية التي تصارعت على تحقيق اوهام النصر بين جميع الاطراف في سوريا قد ساهمت الى حد كبير في دمار سورية وحاضرها ومستقبلها .. وبالأخص تراثها الاثري الذي لم ولن يعوض .. للأسف ..!!

تذكر المراجع التاريخية الكثير عن سرقة وتهريب الآثار السورية منذ فترات طويلة وحتى اليوم . هل تستطيع أن تضيىء لنا على الجرائم التي نشطت خلال عملكم التوثيقي في هذا المجال ؟

أنا على يقين بان اجهل الشعوب بقيم تراثه وآثاره .. هو الشعب السوري ..

أقولها والألم يعتصر فؤادي ..فليس هناك تجهيل متعمد برأيي مثلما جاء بالتجهيل الذي مارسته الحكومات المتعاقبة على سوريا منذ عام 1963 .. ولم يحصل مثل هذا الدمار في آثار بلد مثلما حصل في سورية .. وهو ما نقلته ونشرته خلال عملي بالصحافة، منذ عقود طويلة عن سعد زغلول الكواكبي رئيس جمعية العاديات بحلب، وهو ايضا حفيد المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي حين قال : “إن الشعب الذي لا تربطه بآثاره وأولاده ذكريات متوارثة لهو شعب دخيل عليه، وهو أبعد ما يكون عن حماية ذلك التراث .. “

أليس ماحصل في سورية يؤكد ان الجميع .. وانا اعني ما اقول .. بوصفي الجميع قد اشتركوا في نهب آثار سورية وتدميرها .. وكان ذلك مؤسسا عن عمد .. وحتى لا يكون حديثي عاما وبغير مسؤولية اليك بعضا من شواهدي وشهادتي :

– ليس هناك من دراسات عميقة في سورية في علم الآثار يماثل أهمية آثارها ..

– ليس هناك جامعة واحدة تدرس اللغات القديمة والكتابات المسمارية، التي كشف عنها في ايبلا مثلا، ولغات اخرى باختصاصاتها المتنوعة  ..بما فيها تلك التي نبتت وجاءت مفرداتها ولهجاتها من الأرض السورية ..

– في مسائل التربية والتعليم .. الوضع كارثي .. اذ يتم تلقين الاطفال بأن المتاحف والمواقع والعوائد الاثرية هي لاقوام من (الكفرة) سادت ثم بادت .. بسبب كفرها .. كما ورد  في الكتب المقدسة كافة، بالاخص عقلية الاصنام والاوثان .. وما الى هنالك من فكر غيبي متحجر فاته الزمن والعلم ..

وسمح بعبادة الحاكم الوثن والقائد الخالد الصنم … بتشجيع من مؤسساته الكهنوتية الممتهنة للمراجع الدينية كافة ..

– ليس هناك مجتمع مدني في سورية يسمح بتكوين هيئات علمية وذات مرجعية دولية، ومخصصات وميزانية محترمة، تسمح بتوعية الناس على حفظ التراث والاثار .. والعمل على حمايته تحت حكم القانون ..

– ليس هناك في سورية قانون بالاصل يمكن ان يحترم .. خلال حكم الشعارات الفارغة .. وخصوصا بعد نفاذ الحكم الأسروي العائلي لنوعية فاسدة من عائلة الاسد ومخابراتهم واقربائهم والذين نهبوا الاثار ودمروا الطبقات الاثرية خلال بحثهم عن الكنوز بالمعدات العسكرية والبلدوزرات …امام سمع ونظر الناس في كافة المدن والقرى السورية ..

كل ذلك غيض من فيض ..فما الذي يمكن ان تتوقعه من سلوك الناس بعد كل ذلك، خصوصا عندما تعم الفوضى، ويختلط الثائر باللص .. فلا تعود تفرق بينهما ..!!

شهادتي طويلة عن مواضيع سرقة ونهب الآثار السورية وقد تحدثت عنها مرارا في وسائل الاعلام ولقاءات متلفزة سابقة ..

إنها فضائح اثرية وتاريخية لسرقة ذاكرة شعب .. امام انظار هذا الشعب والاثراء من حساب ثرواته ..

شهادتي -كما اقول دائما- اتركها لتروى كاملة امام محكمة دولية تحاسب منظومة الفساد والبغي التي تاجرت بكل شيء في سوريا .. كل شيء ..

تاجرت بالدماء .. وبيع الاعضاء .. والمخدرات .. والدعارة .. والنفط والغاز والثروات الاساسية  .. وباعت الموانيء والمطارات .. وافقرت الناس .. والاثار حلقة صغيرة من حلقات أكبر ..

وكل ذلك مسؤول عنه حكم البعث ومن ثم حكم الأسدين الأب والابن وأجهزتها الأمنية والعسكرية التي تغولت في البلاد دون اي رادع قانوني ..

هل تمكنتم من أخذ أرشيفكم التوثيقي من داخل سوريا عندما حضرتم لأمريكا ؟

لا .. ..

بالنسبة الى أرشيف المتحف والمتاحف الاخرى والتي كنت مسؤولا عنها، والوثائق الاثرية البصرية السورية ليست ملكي .. وليست ملك اي شخص .. انها ملك ارشيف الدولة السورية ..وكما حافظ عليها  الذين سبقوني حافظت عليها حتى لحظة مغادرتي سوريا .. ولا اعلم ماذا حل بها.

أما بالنسبة الى ارشيفي الخاص وارشيف والدي ومكتبته وكتبه ومخطوطاته فلا اعلم عنها شيئا سوى ان سرقت واصبحت تباع على الارصفة ..وهذا الموضوع اصابني بالقهر والاكتئاب الشديد  .. لانها وصية والدي وعمي ووالدتي الي وانا بأمس الحاجة اليهما لتكملة مشروعي التوثيقي ولنشر ما أسست بسببه دار النشر في واشنطن  .. !!

ماهي الأسباب المباشرة التي أجبرتك على فراق المتاحف والآثار السورية التي ترعرت بينها وتهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ؟

في الواقع كانت هناك عدة أسباب .. اختصرها بالآتي :

مثلي مثل بقية الناس .. لا ادعي أي شرف أي ثورة او بطولة قمت بها او يمكن ان اقوم بها .. ولكنني قبلت بالإذلال الوظيفي .. وقبلت ان ارى الفساد والفاسدين يرفعون الى اعلى المناصب ويُسكت عنهم وعن فسادهم وسرقاتهم .. وشهدت الكثير من الغباء والتخلف في الادارات الشبيهة التي لايمكن اصلاحها .. ولكنني لم اقبل بقتل الناس والابرياء والمتظاهرين بحثا عن رغيف خبز او فرصة عمل او حياة افضل .. وكان من الطبيعي ان اترك كل شيء ورائي واقف الى جانب صوت الناس ولم يدي بيدي سوى قلم وعدسة .. اكتب بها وارسم صورة الواقع المشؤوم الذي جلبه نظام الاسد العفن من احتلالات ايرانية وروسية وغيرها من اجل بقائه على سدة المشهد المهترىء ..

وكان محال علي أن أكتب الواقع او ان اصوره بحقائقه كما كان يحصل وكما عرفت بواطنه ودواخله، من دمشق، كان سيتم قتلي فورا .. كما تمت تصفية كثير من طلبتي او من زملاء لي صحفيين ..

لقد أعلنت موقفي صراحة من دمشق بانتمائي إلى صوت الناس وحراكهم من أجل إنهاء حكم الوريث بشار الأسد ومنظومة حكمه الاجرامي ..

هل لديك أجندة من خلال إقامتك في امريكا لمتابعة عملك للمساهمة في توثيق كل مايتعلق بالشأن السوري ؟

للأسف لا يوجد .. فأنا بلا عمل مستقر وثابت ومؤسسات المعارضة الشكلية، تطابق بالذهنية والادارة السيئة والفاسدة انظمة الاسد الشبيهة الى حد التماثل. وليس هناك احد مهتم بما قمت به او اقوم .. لقد عرفت حفنة المعارضين عن قرب وهم برأيي وبرأي الناس المستقلين والاحرار والثوريين الحقيقيين .. ليسوا اكثر من مجموعة  منتفعين ضحلين الثقافة يبحثون عن دور ما في مستقبل سوريا .. والذي بسببهم وبسبب أدائهم الفاشل ..ابقوا بشار الاسد حتى اليوم على سدة الحكم وهو يتهيأ لتوريث ابنه حافظ الاسد الحفيد تماما كما حصل ويحصل في كوريا الشمالية .. وفي الانظمة الملكية المستبدة من زمن القرون الوسطى الهاربة  من الزمن والمصحات العقلية للتاريخ   ..!!

يعتبر موقع بلا رتوش  مصدر توثيق مهم  من ذاكرة الكتاب والمبدعين وحياتهم وإبداعاتهم . هل تم نشر معظم موادكم المكتوبة في هذا الموقع ؟

لا .. للأسف لم يتم لأن مجمل نتاجي الأدبي والصحفي، المنشور منه والمخطوط بقي في مكتبتي بدمشق وحلب، وفقدت جزءا كبيرا منه .. ولم اعد اعرف ماذا حل به .. والعمر يجري وينقضي سريعا، واشعر بالكثير من الخيبة واليأس الحقيقي من المستقبل الحالك السواد الذي ينتظر الشعب السوري .. بالتبعية واتساع بالخرافة، الدينية والسياسية على حد سواء، والقبول بالفقر والنهب المستدام، والاخطر حتى اليوم هو التغيير الديمغرافي الهائل، وان تغير النظام الاسدي القاتل، لن يحصل تغيير كبير في الذهنية والادارة السياسية، فقط ستتغير الوجوه .. ويأتي جوعى ورعاع جدد الى الحكم ، كما تدل ظلالهم القادمة عليهم… ولن آسف حين اكشف للناس بعضا مما أراه سوف يحصل لهم قدما.. فيما اذا بقي حالهم كما هو عليه اليوم..

الوقائع القادمة لا تبشر بالخير القادم اليهم.  

موقع بلا رتوش كان ينشر لي بعضا من نفثات الصدر، بكل حرية ومنحني مساحة لم تمنحني اياها اية مواقع اخرى لها محذورات وموانع كبيرة بحسب تموضع كل موقع وفي أي دولة يصدر منشوراته ومقالاته ..

وعبر هذا المنبر اوجه تحية للصديق الرائع رئيس تحرير ومؤسس موقع (بلا رتوش) السيد المهندس ماهر حمصي الذي منحني سماءً حرة ومرتفعة بلا حدود لأعبر من خلالها عما في جعبتي من افكار .. وابحاث جريئة. ترددت مواقع اخرى في نشرها، حتى ظن الناس والقراء أنني أنا صاحب الموقع .. !!

من خلال عملك في توثيق الحضارة السورية وإطلاعك على الكثير من وثائق الخارجية الأمريكية والبريطانية والفرنسية . هل كان حسك يتوافق مع ماجرى من أحداث في سوريا ؟

أعتقد أن هذا السؤال بغاية الأهمية. وهو يلخص قيمة ما أنتجته من كتب وثائقية، ويطول البحث فيه، ولكن اختصره بالاجابة التالية: اطلاعي على الوثائق الخطيرة والسرية عن تاريخ سورية والمنطقة جاء بعد وفادتي الى واشنطن .. ولم يكن يمكنني التكهن قبلها بمسار الاحداث، ووقائع استشراف القادم لسورية والمنطقة .. ولكنني بعد اطلاعي على كم مهول من التاريخ السري الحقيقي المغفل، ربما اصبح عندي رؤية وقراءة أدق للقادم من الاحداث.. اكثر بكثير من ذي قبل ..

التاريخ معلم .. ومعلم كبير ومتفوق في دروسه لمن يذاكره ويغوص في احداثه ويقرأه بتجرد بعيدا عن الاهواء والنزعات الشخصية.

ماهي رسالة الباحث والمصور سعد فنصة اليوم ونحن في السنة الثانية عشرة لإنطلاق الثورة السورية ونظام الأسد وأعوانه لايزالون يسرقون آثار سوريا ؟

ليس لدي رسالة .. فأنا لست منظرا ولا فقيها،  ولا أدّعي بما يدعيه من يظنون بأنفسهم أكبر من قيمتهم .. او بحجم أكبر من أحجامهم ..

أنا كاتب فخور بأن كتاباتي كانت الاكثر قراءة وانتشارا .. ومصور وثقت آثار بلادي، في رحلة عمري واقمت العديد من المعارض والمحاضرات التي تضيء الاجزاء  الاكثر غموضا معرفيا، وتثير الاسئلة،  وتحرك مستنقع العقل، الذي أغرقه فيه التحالف الديني المتأخر مع السياسي المجرم، ولم أكن ثائرا على النظام القاتل وحده، بل ثائر  على رموز المجتمع الذي افرزه، وقد دفعت من كل ذلك التاريخ اثمانا باهظة، ليس اقلها التشرد والنفيّ والفقر، ولا أرى اي بارقة أمل لي او لغيري، من الشعب السوري المكلوم بتغير هذه الاحوال البائسة حتى وقت قريب … او في المدى المنظور على الاقل ..!!


syriawise

Yasser Ashkar



يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية