
ويطلّ عليك بين حينٍ وآخر “محلّل استراتيجي” من الطراز الفريد، يحمل على كتفيه موسوعة من المصطلحات الفضفاضة، ويبدأ بإلقاء خطبته المجلجلة عن “أوروبا القارّة العجوز”.
يقولها بنبرة الواثق الذي اكتشف قانون الجاذبية بعد سقوط تفاحة الوعي على رأسه، وهو لا يدري أنه يتحدّث من قلب غيبوبةٍ جماعية، تمتدّ من بيته الواجف إلى مقهى رخيص، ومن النشيد الوطني حتى النعاس القومي العميق.
هو نفسه الذي يقيس “الشيخوخة الأوروبية” بعدد التجاعيد على جبين برلين ، لكنه لا يرى التجاعيد التي تملأ وجه تاريخه الشخصي، ولا يسمع طقطقة الركب في جغرافيا بلاده كلما حاولت أن تمشي خطوة إلى الأمام.
يتحدث عن “انحطاط الغرب” بلسانٍ يرتجف من عقدة نقصٍ مزمنة، ويؤلف المواعظ عن “انتهاء الحضارة” بينما يركب على عربة تجرّها ذاكرةٌ مثقوبة، ووقودها شعارات من القرن الماضي أُعيد تدويرها بلا غطاءٍ صحيّ.
ثمّ يختم تحليله البليغ بابتسامةٍ مُتعالية، كأنّه لتوّه أنقذ العالم من الانقراض، غير مدركٍ أنّ صوته نفسه يخرج من حنجرةٍ تعاني هشاشةً حضاريّةً مزمنة. فهو يعيش في مكانٍ لا يتحرّك إلا بالهتاف، ولا يسكن إلا حين يتعب الحنجرة من “الولاء الأبدي” لأيّ شيءٍ يُرفع على اللافتة.