التضليل الإعلامي: سلاح يحرف الحقيقة ويعمي الرأي العام عن سوريا

في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، انتهى حكم عائلة أسد بعد عقود من الاستبداد، معلنًا بدء مرحلة انتقالية بقيادة أحمد الشرع وسط توقعات حذرة بالاستقرار.
لكن في مارس/آذار 2025، تحولت مدن الساحل السوري – اللاذقية وطرطوس وجبلة – إلى مسرح لاشتباكات محدودة سرعان ما غطاها حصار إعلامي من الأخبار المزيفة والروايات المشوهة التي اجتاحت وسائل التواصل والإعلام التقليدي.
هذه الحملة ليست مجرد تشويش عابر، بل تهديد استراتيجي يستهدف تقويض سوريا الجديدة في مهدها.
يستعرض هذا التحقيق، المستند إلى مصادر موثوقة وتقارير ميدانية، جذور هذه الأزمة الإعلامية، أدواتها، الجهات المسؤولة، وتداعياتها، مع اقتراح سبل المواجهة، ليكون مرجعًا دقيقًا في فهم هذا التحدي غير المسبوق.


بدأت الأحداث في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، مع سقوط نظام بشار الفار ، تاركًا أحمد الشرع أمام مهمة شاقة لبناء سوريا جديدة.
لكن في 8 مارس/آذار 2025، ظهرت تقارير عن توترات أمنية في الساحل السوري، لتتصاعد في اليوم التالي، 9 مارس، إلى موجة تضليل إعلامي مكثفة. وثقت “الجزيرة نت” في تقرير نشرته في 9 مارس/آذار استخدام صور من مجزرة الغوطة عام 2013 للادعاء بوقوع “جرائم حديثة” في الساحل، في محاولة لاستغلال ذاكرة السوريين التاريخية.
وفي 12 مارس، كشفت منصة “تأكد” عن نشر صورة لطفلة كورية من عرض أزياء قديم كضحية مزعومة تُدعى “دهب منير علو”، في تزييف واضح.


صور غير حقيقية تستخدم على أنها من سوريا لانتهاكات قوات الأمن (بينترست)

كما نشرت “بي بي سي عربي” في 10 مارس تحليلًا عن روايات “إبادة العلويين” استندت إلى شهادات لم تُثبت صحتها، ليرد في 11 مارس أفراد مثل الدكتور بسام منير سلوم عبر “تلفزيون سوريا” نافين أنباء وفاتهم المزعومة.
هذا التسلسل يكشف عن عملية منهجية لتزييف الواقع في لحظة انتقالية حساسة.

ويُشار هنا إلى أن “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، الذي يُروج أحيانًا لروايات مشابهة، يفتقر إلى المصداقية ويُتهم بتأجيج الفتنة الطائفية عبر نشر أخبار ملفقة، مما يستدعي الحذر من الاعتماد عليه كمصدر.


التضليل في هذه الأزمة ليس ظاهرة عشوائية، بل يعتمد على أدوات متطورة تستهدف الوعي السوري والدولي بأساليب متنوعة.
أولًا، استغلال الماضي، حيث أظهر تقرير “الجزيرة نت” في 9 مارس كيف أُعيد نشر صور الغوطة لربط الحكومة الجديدة بمآسي النظام السابق، مما يهدف إلى إثارة الخوف وتقويض الثقة في السلطة الانتقالية.
ثانيًا، التحريض الطائفي، كما وثقت “بي بي سي عربي” في 10 مارس روايات مبالغ فيها عن استهداف العلويين، في محاولة لإحياء التوترات الطائفية في منطقة تتسم بتنوعها الهش.
ثالثًا، الاستدراج العاطفي، كما في صورة الطفلة الكورية، وهي أداة لاستغلال المشاعر الإنسانية لتأليب الرأي العام. رابعًا، خلق الارتباك، حيث يشوش التضليل على القدرة على تمييز الحقائق، مما يعيق اتخاذ قرارات واضحة سواء داخل سوريا أو خارجها. هذه الأدوات تشكل هجومًا متعدد الجوانب يتجاوز مجرد نشر الأكاذيب إلى التلاعب بالواقع نفسه.

في خطاب مصور بتاريخ 9 مارس/آذار ، حمّل أحمد الشرع “فلول النظام السابق” مسؤولية التضليل، وهو اتهام تدعمه “الجزيرة نت” التي رصدت في تقريرها بنفس اليوم نشاطًا إعلاميًا مواليًا لبشار أسد الفار يبث شائعات من خارج الحدود.
وأكدت “بي بي سي عربي” في 10 مارس أن هذه الفلول ليست مجرد بقايا مشتتة، بل شبكة منظمة تسعى لاستغلال الاضطرابات كفرصة لاستعادة النفوذ.
على المستوى الإقليمي، نفى التلفزيون الإيراني الرسمي في 10 مارس أي تورط، لكن “الجزيرة نت” وثقت نشاط حسابات موالية لطهران تدعم الروايات المضللة، مما يثير تساؤلات عن دورها في تعزيز الفوضى للحفاظ على مصالحها.
روسيا، عبر بيان نشرته “تاس” في 10 مارس، طالبت بوقف العنف، لكن محللون يرجحون أنها قد ترى في الأزمة مبررًا لتعزيز وجودها العسكري في الساحل.
كما أشار مستخدمون مثل @EekadFacts على منصة X في 12 مارس إلى أدلة محتملة على تورط شبكات إسرائيلية في نشر صور مزيفة، ربما لزعزعة الحكومة الجديدة أو تعقيد المشهد الإقليمي. هذه الجهات تشكل شبكة معقدة من المصالح تتغذى على الاضطرابات.


التضليل هنا ليس مجرد تشويش، بل يحمل أهدافًا بعيدة المدى.
أولًا، إضعاف السلطة الانتقالية، حيث أشارت “بي بي سي عربي” في 10 مارس إلى محاولات تشويه صورة أحمد الشرع، مما يهدد قدرته على توحيد السوريين في مرحلة حرجة.
ثانيًا، تأجيج الانقسامات الطائفية، كما حذر تقرير الأمم المتحدة في 10 مارس من مخاطر “تصاعد القتل الطائفي” إذا استمرت الروايات المزيفة، وهو ما قد يدفع سوريا نحو هاوية جديدة.
ثالثًا، تعطيل الدعم الدولي، إذ أعلن السيناتور الأمريكي ماركو روبيو في 9 مارس، وفق “رويترز“، دعمًا مشروطًا يعتمد على وضوح الأوضاع، وهو مطلب يصعب تحقيقه وسط الفوضى الإعلامية. هذه التداعيات تشكل تهديدًا شاملًا يستهدف استقرار سوريا السياسي والاجتماعي والدولي.

في 10 مارس، دعا أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، إلى “وقف إراقة الدماء”، معلنًا إرسال وفد تحقيق إلى الساحل، وفق بيان رسمي للأمم المتحدة، في خطوة قد تؤسس لتحرك أوسع إذا حظيت بدعم سياسي قوي.
الولايات المتحدة، عبر تصريح ماركو روبيو في 9 مارس (“رويترز”)، أبدت دعمًا مشروطًا يركز على حماية الأقليات، مع وجود 2000 جندي أمريكي في سوريا كعامل ضغط محتمل.
الاتحاد الأوروبي، ممثلاً بألمانيا، طالب في 10 مارس بتحقيق دولي، بينما ربطت المفوضية الأوروبية المساعدات الاقتصادية بالاستقرار، محملة “فلول النظام البائد ” المسؤولية.
روسيا، في بيان عبر “تاس” في 10 مارس، اقترحت مناقشة الأزمة في مجلس الأمن،
بينما نفى التلفزيون الإيراني (“فارس”) في اليوم ذاته أي ضلوع، على الرغم من تقارير “الجزيرة نت” التي تثبت عكس ذلك. هذه الاستجابات تعكس تنوعًا في المواقف بين الحذر والالتزام، لكنها تفتقر إلى التنسيق الكافي لمواجهة الأزمة.

للتصدي لهذا التهديد، تبرز ثلاث خطوات أساسية.
أولًا، الشفافية الحكومية، حيث أعلن الشرع في 9 مارس تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، لكن نجاحها يتطلب نشر نتائجها بشكل فوري ومباشر للسوريين لاستعادة الثقة العامة.
ثانيًا، التحقق السريع.
ثالثًا، التعاون الدولي، عبر تعزيز دور وفد الأمم المتحدة واستغلال اقتراح روسيا وأمريكا لمناقشة الأزمة في مجلس الأمن (“تاس”، 10 مارس)، لتوثيق الأحداث وفرض رواية موحدة تقاوم التضليل.
هذه الخطوات تشكل إطارًا عمليًا لاستعادة الحقيقة في ظل هذا الحصار.

في مارس/آذار 2025، تواجه سوريا الجديدة حربًا إعلامية تهدف إلى تقويض استقرارها السياسي والاجتماعي. فلول النظام السابق، بدعم ضمني من إيران وروسيا، يستغلون التضليل لإعادة إحياء نفوذهم الضائع، بينما تظل استجابات المجتمع الدولي مترددة أمام هذا التحدي. لكن المخرج ممكن: الشفافية الحكومية، التحقق الفوري من الحقائق، والتنسيق الدولي يمكن أن يكسروا هذا الحصار الإعلامي.
سوريا، بعد عقود من الألم، تستحق فرصة حقيقية للنهوض، وهذه الفرصة تبدأ بحماية الحقيقة كأساس لهوية وطنية موحدة قادرة على مواجهة التحديات.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية