العُقاب السوري الجديد: بين جذور تدمرية وادعاءات التشابه

في الثالث من تموز/يوليو 2025، كشفت الحكومة السورية عن هويتها البصرية الجديدة، متجسدة في شعار “العقاب الذهبي” باسطًا جناحيه، تعلو رأسه ثلاث نجمات خماسية. رأى فيه البعض بادرة رمزية لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع بعد سنوات من القمع، فيما اعتبره آخرون مادة جدلية تتقاطع فيها الاعتبارات السياسية والفنية والقانونية، خاصة في ظل التشابه البصري مع العقاب الألماني التقليدي.

وراء هذا الجدل، تكمن حقيقة أعمق وأسبق زمنًا: فالعقاب ليس دخيلًا على الثقافة السورية من الخارج، بل هو جزء أصيل من تراثها، متجذر في الحضارة السورية القديمة منذ آلاف السنين. وقد وُثّق حضوره بجلاء في تدمر، حيث نُقشت صوره على الأحجار والمعابد، وجُسّد كرمز إلهي وروحي وقيادي.


تُظهر النقوش التدمريّة العقاب مفرود الجناحين، منتصبًا فوق صخور المعابد، يحمل في منقاره غصن غار يرمز إلى النصر والسلام. لم تكن هذه الصورة زخرفية، بل تجسيدًا للإله بعل أو الإله “هدد” في ثقافات الشرق الأدنى القديم. مثّل العقاب آنذاك رمزًا للسماء، وللشجاعة، وللبصيرة، باعتباره كائنًا يتجاوز العواصف، ويحلّق عاليًا دون رهبة من الرعد أو البرق.

لم يكن العقاب لدى السوريين القدماء مجرد طائر، بل كائن إلهي شمسي مهيب، يجسد القوة الروحية، والبصيرة، والانعتاق. لقد مثّل السيادة في الأفق، وسكن رمزية العلو والسمو.

ينص الإعلان الدستوري في مادته الخامسة على أن “شعار الدولة ونشيدها يحددان بقانون”، وذلك في أعقاب حلّ مجلس الشعب وإلغاء العمل بالدستور السوري لعام 2012 بتاريخ 29 كانون الثاني/يناير 2025، والذي كان ينص بدوره في مادته الأولى على أن “تتخذ الدولة شعارًا ونشيدًا وعلمًا تحددها القوانين”. وعليه، فإن أي تعديل رسمي في الشعار يتطلب قانونًا صادرًا عن مجلس الشعب. وحتى إعداد هذا التقرير، لم يُعلن عن صدور مثل هذا القانون، ما يثير تساؤلًا قانونيًا حول شرعية الإجراء، ويجعل من الشعار الجديد مجرّد رمز إداري، لا نصًا قانونيًا نافذًا حتى إشعار آخر.

ورغم ذلك، لا تبدو الهوية البصرية المُعلنة ساعية إلى فرض ذاتها عبر التشريع، بل تهدف إلى تقديم سردية رمزية جديدة لسوريا، تستمد مرجعيتها من إرثها التاريخي ووعودها السياسية في مرحلة ما بعد الاستبداد، بدلًا من الارتكاز إلى دستور النظام السابق.

أثارت مواقع التواصل الاجتماعي ردودًا ساخرة، إذ قارن بعض المعلقين بين العقاب السوري الجديد و”Reichsadler”، شعار ألمانيا النازية، أو “Bundesadler”، الشعار الرسمي لجمهورية ألمانيا الاتحادية.
كما لفت آخرون إلى تشابه بصري مع شعار شركة ألمانية لصناعة النبيذ (Gut Avelsbach)، التي تعتمد بدورها نسرًا ممدود الأجنحة شعارًا لعلامتها التجارية.

غير أن هذه الطعون، من الناحية القانونية، تفتقر إلى وجاهة موضوعية. فشعار العقاب الألماني يُعد رمزًا وطنيًا سياديًا، لا تملك حقوقه أي جهة خاصة. أما شركة Gut Avelsbach، حتى إن كانت تمتلك شعارًا تجاريًا مسجَّلًا في قطاع النبيذ، فلا تمتلك حق الطعن في استخدام الشعار السوري، ما دام الأخير لا يُستخدم في سياق تجاري أو تسويقي قد يثير التباسًا لدى المستهلكين.

فضلًا عن ذلك، فإن التباين في الأهداف والرمزية والسياق الحضاري يجعل أي مقارنة قانونية بهذا الشأن مجرد اجتهاد ضعيف الأساس، لا يصمد أمام اختبارات المحاكم الدولية أو معايير التقييم المؤسسي الجاد.

إذا كان العقاب لدى السوريين القدماء رمزًا للإله بعل، وللحرية، وللسماء، وللنور، فإنه احتفظ بحضوره أيضًا في التاريخ الإسلامي، حيث ورد اللفظ في سياق فتح الشام على يد الصحابي خالد بن الوليد، في معركة “ثنية العقاب”. أما في التاريخ السوري الحديث، فقد اتخذ “العقاب الذهبي” طابعًا رسميًا حين صمّمه الفنان التشكيلي السوري خالد العسلي عام 1945، ليجسّد رؤى الآباء المؤسسين في تأسيس شعار للجمهورية العربية السورية.

لذا، فإن استعادته اليوم، في سياق ما بعد الثورة، يمكن اعتباره محاولة لصياغة ملامح سوريا جديدة، ترفرف فوق ركام الماضي، وتتطلع ببصيرة رمزية إلى ما يتجاوز الحطام.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية