لا أرسم شيئًا… أرسم الزمن لـ: منذر مصري

منذر مصري
شاعر وفنان سوري

[ارتكبت جريمة
جريمة موصوفة
كما يقال
بكلا ركنيها القانونيين
المادي والمعنوي؟

خنت الرسم
هجرته
دونما كلمة وداع
أو حتّى نظرة
رميّته خلف ظهري
دونما ندم
ككأس فارغ
ولم ألتفت لأرى أين وقع
لكنّي سمعت صوت ارتطامه على الأرض
وانكساره
….
إلّا إنّه
لسماحته
لوفائه
لسمو خلقه
لنبله
لم يهجرني!]

أهبّ من السرير، وأهرع إلى الخزانة ذات الدرفتين المركونة في زاوية شرفة بيتي الخلفية، حيث أحتفظ بالأقلام والريش وأنابيب الألوان، التي غالبًا ما يكون قد جفّ، بمرور الزمن، عدد لا بأس به منها. “أيّ عقاب؟” أسأل نفسي. “عادل كفاية” تجيبني. وأقوم برسم مجموعة متسلسلة من الرسوم، حينًا أكتفي بـرسم خمسة رسوم، وحينًا أجدني أرسم عشرة رسوم، وحينًا يصل عددها إلى /60/ رسمًا، كما حدث في معرضي (تكفيني شجرة – 1986). وبأحجام صغيرة وكبيرة ومتوسّطة، منها على الورق ومنها على القماش، أبدأها عادة بقلم الرصاص، أو الفحم، وبعدها أنطلق واستخدم أنواعًا عديدة من الألوان والأحبار. كلّ مجموعة تتناول موضوعًا محدّدًا وقعت عليه بطريقة أو بأخرى واستهواني رسمه، إمّا لمجرّد شكله، وإمّا لما يمكن أن يوحيه ويرمز إليه من معان وأفكار، صاعدًا بأسلوبي، على ذلك النحو اللولبي الذي كان إلياس مرقص يرسمه بأصبعه، من الواقعية المباشرة إلى التجريدية البحتة:

أشجار
طيور
وجوه
زجاجات
دمى
زهور

وآخرها وحوش بشرية، ذات انياب بارزة وألسنة دموية مدبّبة. ولكن ليس أنا من يسمح لنفسه أن يحكم على الآخرين بهذه القسوة، لذلك أطلقت عليهم اسم:

(أخوتي).

/


لهذه الأسباب مجتمعة، الظاهر منها والخفي، التي لا يعلم غير اللـه ماذا كانت غايتهم البعيدة من تردادها أمامي، والتي، بسوء ظنّ من قبلي، لا أقلّ ولا أكثر، من محاولة كلّ طرف منهما إبعادي عن كاره وباب رزقه! الرسّامون راحوا يعدّونني شاعرًا، يطيب له، تشبهًا بهم، وكما فعل وسبقه شعراء مشاهير كثيرون، وآخرون مغمورون لم يسمع بهم أحد، أن يخربش من حين إلى آخر خطوطًا لا على التعيين على هامش صفحات قصائده. وفي الطرف الآخر، راح الشعراء يعدّونني رسّامًا، وينصحونني أن أركز جهدي على الرسم: “الجميع يستطيعون أن يكونوا شعراء، الأمر لا يحتاج سوى لمعرفة بسيطة في القراءة والكتابة، أمّا الرسم فيحتاج لموهبة لا يمتلكها إلّا النادر من الناس، وأنت يا منذر، خلقك اللّـه لتكون رسّامًا. إيّاك أن تضيّع هذه الفرصة. لا تشتّت نفسك”! حتّى إنّهم بعد أن أستعرض أمامهم بعضًا من آخر رسومي، يطرحون عليّ وساطتهم لإقامة معرض لي عند أصدقائهم من أصحاب الصالات الفنّيّة في العاصمة، وذلك بشرط أن أتابع العمل على هذا الموضوع الذي أذهلهم: “ارسم لا أكثر من عشرين لوحة، نعم يكفي عشرون لوحة، بأحجام مختلفة، لهذا الرجل والمرأة الذين يديران لنا ظهريهما، وسنؤمن لك واحدة من أفضل صالات العرض في دمشق”! كما أنّهم تشجيعًا لي يطلبون منّي، رسومًا لأغلفة كتبهم، دون أيّ مقابل، سوى ذلك الاعتراف: “أنت رسّام مميّز حقًّا” قال لي (ح. ب. ح)، الذي يخصّني بلوحات أغلفة جميع كتبته. إضافة إلى كتابة اسمي بأحرف صغيرة ما أمكن، في إحدى زاويا الغلاف الخلفي للكتاب: “ماذا أريد أكثر”. لذا عندما سأل (ص. د) الشاعر علي الجندي، في مقابلة أجراها معه لملحق صحيفة النهار البيروتية، عن رأيه في شعر منذر مصري، أجابه: “منذر مصري! الرسّام تقصد؟”.


لليوم، وبعد /50/ عامًا بالتمام والكمال، على هذه الواقعة بتفاصيلها الدقيقة، كلّما حدث، وكنت أسير وسط الشارع، وحيدًا أو بصحبة أصدقاء، لا فرق، قبل منتصف الليل، أو بعده بكثير، وأيضًا لا فرق:

[عائدًا من سهرة متأخّرة في مطعم شعبي
أضرب ببوز حذائي
علبة سردين فارغة
أمضي بها أبعد مسافة ممكنة
إلى أن تقع في بالوعة مطرية بلا غطاء
أو أن تنزلق أسفل إحدى السيارات الهاجعة
على طرفي الشارع
أستعيد على قرقعتها
ذكرى لؤي كيالي
وهو يركل علبة السردين على طول الطريق
من مقهى الموعد في نهاية الجلسة المسائية
إلى بيته في حيّ الحمدانية
ذي الغرفتين
الأولى للمنتفعات
والثانية للرسم والنوم واستقبال
قلّة قليلة من الأصدقاء
بشرط ألّا يصطحبوا معهم
أيًّا من صديقاتهم.
/
“الآن الآن
إذا قرعت بابي أجمل فتاة في حلب
لا أفتح لها
لا مكان للفضوليات والمتلصّصات في حياتي
فما بالك في مرسمي الضيق هذا؟”.
/
قال لمأمون صقّال: “يعجبني خطّ منذر”
هو الذي لا يعجبه خطّ أحد
وكأنّ هذا شجعني على أن أبدي
على نحو لا يخلو من بعض الوقاحة
ملاحظاتي على طريقة رسمه الأيدي
فما كان منه إلّا أن قال
وبكلّ التهذيب الذي يمكن أن يمتلكه
شخص عصابي مزّق يومًا رسوم معرض كامل
لسماعه بعض الانتقادات:
“باكرًا عليك أن تحكم على رسم الأيدي يا صديقي”
أمّا حين سخرت من بكاء سيدة شابة تدعى (ن. ن)
عرفت بزياراتها المتكرّرة للفنانين والأدباء
في مختلف المدن السورية
والتي ألّف لها الموسيقار اللاذقي محمود عجان
مقطوعته الوحيدة حاملة اسمها: (ناديا)
وهي أمام إحدى لوحاته
فقد اكتفى بأن وجّه لي سؤالًا لليوم لا أعرف جوابه:
“هل تعرف معنى الدموع”.]
/


لأنّه أيضًا، مجموعتي: “لا أرسم شيئًا أرسم.. الزمن”، مربّعات بيضاء أو صفراء أو بيضاء وصفراء معًا، أحاول أن أجعلها متوهّجة، بالقدر المطلوب، أنقلها، تبعًا لإحساس غير مدرك، بأنّ هذا الموقع مناسب وذلك الموقع لا، على أطراف لوحات مطلوسة بالأسود الفاحم. محاولًا أن أجعل من الفراغ موضوعًا، ومن الحيز الذي يخلو من أيّ شيء ينظر إليه، ما يستوجب أن يقترب منه ويلامس حوافه وسماكاته برأس سبابته، كما فعل يوسف عبدلكي عندما زارني في مرسمي لأوّل مرّة، وليخلص، بموافقة الرسام (ح. ن) الذي جاء معه، بأن يقول لي: “منذر أنت رسّام جيد، ولديك خطّ قويّ.. لماذا ترسم أشياء كهذه؟”. أو مجموعتي السابقة، التي بقيت منكبًّا عليها زمنًا تجاوز الخمس سنوات: “زجاجات لا أحد غير اللـه يعلم ماذا في داخلها”، سيقول إنّني سرقتها من هذا الفنان أو ذاك. رسّامون، لا يحصى عددهم، على مدار العصور، ومن مختلف المدارس، رسموا الزجاجات، الجميل والجيد منها كزجاجات سيزان وبيكاسو وبراك، والسوقي الرديء منها كزجاجات رسّامين لا يستحقّون، مجرّد، ذكر أسمائهم.

/

صدّقت بما قاله لي مأمون صقّال: “عندما يكون لديك خطّ قوي، يكون لديك لون قوي”. وجعلته ديدني في الرسم. يلاحظ بسّام جبيلي، زميلي في كلّية العلوم الاقتصادية، وجاري في السكن الجامعي، وشريكي في معرضنا الأوّل في بهو كلّية الآداب في جامعة حلب، نزعتي القوية للرسم الواقعي، ويفسّرها بأنّها نتيجة تأثري الواضح بلؤي كيالي ومأمون صقّال وسعد يكن ورسمهم للناس في الحدائق العامّة والمقاهي، ومحاولتي تقليد خطوطهم الحادة والقاسية، ويحذّرني: “انتبه، هم يرسمون الإنسان يرتدي ثيابًا، قميصًا وسروالًا وحذاء. نحن نرسمه عاريًا، أشخاصهم عاديون عابرون، نحن أشخاصنا جوهريون خالدون”. تجري معنا الصحافية (ه)، التي اكتشفنا لاحقًا أنّها هنريت عبودي، زوجة المفكّر جورج طرابيشي، مقابلة لصحيفة الجماهير المحلّية التي كانت تكتب لها. وردًا على سؤلها، كيف يشعر كلّ منّا وهو يرسم. أجابها بسّام: “كمن يضربني أحدهم بمطرقة على رأسي فلا أستيقظ إلّا عند انتهاء اللوحة”. بينما كان جوابي: “أكون في أشدّ حالاتي تيقظًا واستثارة”. نشرت المقابلة باختصار وتصرّف شديدين. ومع ذلك سعدنا بها كلّ السعادة، فهذه المرّة الأولى التي يذكر بها اسمانا على صفحات صحيفة ما، وقد أرفق بها عدّة صور، منها صورة لبسّام يعلّق رسومه على أحد المساند المخصّصة للعرض. وصورتي أنا.. واقفًا مع ثلاث فتيات!

/


10/7/1976- في مركز صبحي شعيب للفنون التشكيلية، افتتح منذر مصري معرضه في حمص، وقد كتب على بطاقته:

 

[عمري 27 سنة
كادت تنفق هباء
لولا ثلاث منها
أو أربع
وجدتني محاطًا بأصدقاء
رؤوسهم مشتعلة.
/
في تلك السنوات
حصل لي كل شيء
لذا
فكل ما قمت وأقوم به
في الأصل لها
ولهؤلاء الأصدقاء الذين
ما زالوا يحرقون
كل ما أوسّد رأسي عليه]
/

أعدّل في مساحته، تناسب حجم المربّع الداخلي مع حجم اللوحة، أكثر من مهم، أضيّقه وأوسّعه، ولو ميليمترات قليلة. أدقّق في الخطوط التي تحدّد أطرافه، أستخدم في البدء مسطرة، ثم أعود وأحني للخارج قليلًا الطرف الأيمن، وللداخل على نحو يكاد لا يلحظ، الطرف الأيسر، وكذلك الأمر بالنسبة لطرفيه، الأعلى الذي يجب أن يكون مقوّسًا، والأسفل المقعّر باعتدال، ثم أعيد وأعيد طلس اللون الأبيض فوق اللون الأصفر، خالطًا الأصفر الليموني مع الرمادي كي لا يبدو مبهرجًا، ثم لا بأس بالقليل من الظلّ باللّون البرتقالي الفاتح. وبقدر حرصي على أن يكون أملس وناعمًا في وسطه، أحرص على أن يكون ثخينًا وخشنًا عند جانبيه، كأمواج تتوالى على الشاطئ، لطيف أن آتي هنا بتشبيه شاعري، في سياق هذا الكلام الجاف. نعم، ربّما تجدني أعمل في مربّع فارغ تتراوح مساحته بين 25% و30% من المتر المربّع، ضمن محيط من السواد يغطي اللوحة كاملة، لساعات وساعات، لا أشعر بانقضائها، ويحدث أن أمسحه وأرسمه، المرّة تلو الأخرى، متكبدًا ذات العذاب، وذلك لأنّه لا بد لي أن أجعل من مجرّد مربّع فارغ، أقرب إلى أن يكون لا شيء، شيئًا يستحقّ أن ينظر أحدهم إليه، وأن يطيل النظر ولو لدقيقتين أو لثلاث، أو ربّما لعشر دقائق!

/

ها أنذا أضيف الآن، إنّه بالنسبة للناظر إلى مربّع، لم يرسم في داخله شيء، مربّع فارغ من أيّ شيء، دقيقتين أو ثلاث دقائق، لا أكثر، ليس بالزمن القليل على الإطلاق:

[أرجوك لا تسألني
مربّعاتي ماذا تعني؟
لا تطلب منّي أن أقول لك ما هي؟
أو أن أشرح لك
ما هي غايتي من رسمها؟
انظر فحسب
لا تحاول أن تفهم
ليست لغزًا
إنّها ليست مسألة حسابية تتطلّب حلًا
هي مجرّد مربّعات.]

اتّصل بي صديق يقوم بزيارة للولايات المتّحدة الأمريكية، وأخبرني أنّه قد دخل لتوّه صالة عرض فنية، ليكتشف، من أوّل نظرة، من اين أسرق رسومي، وخاصّة مربّعاتي. فاللوحات أمامه كلّها مربّعات في مربّعات لرسّام بريطاني راحل ذي شهرة واسعة، من الصعب عليه تهجئة اسمه، يقام لرسومه معرض استعادي في واشنطن العاصمة.

اعندها استطعت بقدرتي على المراوغة المشهود لي بها في إيجاد التبرير المناسب لأي شيء أقوم به:

“يا صديقي لكلّ رسّام مربّعاته”.

/

النهاية كما البداية:

[لا أرسم شيئًا

أرسم الزمن].


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية