
رفعت: لا أصدّق سوريًّا يترك السويد ويعود لسورية.
شكّور: لماذا لا؟ ألا يحيا أخوك هناك!
1- الصيّاد والقدّيس والسمكة
أشدّ جلاءً من أيّ مرحلة سابقة، تتبدّى تأثيرات الأيقونة السريانية في أعمال هيثم شكّور الأخيرة. وبدل أن يتابع ابتعاده، خطوة خطوة، عن هذا المؤثر العمومي، كما كان يفعل لسنين عديدة، ها هو يختار أن يعود إليه من جديد، كنقطة البداية، كمادة أولى بحالتها الخام، إلى عين النبع كما يقال. وقديسوه، الغامضون، حاملو الرسائل الصامتة، ما عادوا يبدون، برؤوسهم الصغيرة، وملامح وجوههم المبتسرة، كقادمين من كواكب أخرى، أو ملائكة خلعوا أجنحتهم وارتدوا الحلل المزركشة، بل كما كانوا في الأصل، حين مرّ بهم السيّد وهم منشغلون بشباكهم وخيوطهم وصنّاراتهم، وناداهم: “هلّموا ورائي، فأجعلكم صيادي ناس”. ومنذ أن بدأ هيثم يرسم لهم تخطيطات بالرصاص والألوان المائية، فراحوا يتجسدون أمامنا بشفافية، قليلًا ما تسمح بها الألوان الزيتية، جالسين يحيكون خيوطًا على شكل مربعات ومخمسات ودوائر، أو واقفين على حواف مراكبهم يلقون شباكهم وخيوط صنانيرهم بعيدًا ما أمكن لهم، أو منحنين فوق سلال فارغة غالبًا وطافحة بالأسماك أحيانًا، ودائمًا، خلفهم أو على أحد جوانبهم، أفق من بحر ومراكب. غير أنّ لا شيء يعود إلى ما كان عليه، وإن خيّل لنا أنّه، هذه المرّة، يفعل ذلك. فهيثم العائد ليس هيثم الذي نعرفه ذاته، وإن كان يشبهه. السنون، التجارب، الخيبات، استمراره بكل هذا العناد، في أن يرسم، وأن يجد في كل لوحة، راض عنها أو لا! في كل تجربة، أنهاها أو أبقاها ناقصة، فرصة أن يفهم شيئًا، وأن يتعلم شيئًا. وهذا بمجمله جعل لوحته أكثر تحديدًا، أكثر سدادًا، أحكم قبضًا على الموضوع والأسلوب، على المعنى والشكل، في آن. وذلك الإيحاء الذي احتاج مني يومًا أن أغوص وأكتشفه، أصبح الآن مكشوفًا لي وللجميع. ما عاد ثالوث (القديس – الصيّاد – السمكة) رمزًا، أو سرًّا كنسيًّا، صار (القديس – الصيّاد – السمكة) واحدًا، بشرًا سويًّا، حتّى إنّه يمارس الحبّ أمام ناظرينا. على الضوء المشعّ من أجسام الملائكة التي تحوم حوله وتباركه. أي أنّ من يسيطر، لا ليس يسيطر، فشخوص هيثم تفتقد أيّ إحساس بالقوة والسيطرة، إذًا فلأقل ساكن لوحة هيثم، أو من يلتقط صورته وهو يعبرها، هو القديس والصيّاد والسمكة في وقت واحد، وفي هيئة واحدة! وهو باستخدامه الخاص لشروط فن رسم الأيقونات التقليدي، الصرامة في الخطوط، التقشّف في الألوان، البساطة الهندسية في التكوين، الدقة في رسم كلّ شيء، قد تمكّن كما لم يحدث سابقًا، من الوصول إلى أعلى مستوياته إقناعًا ونضجًا.
هيثم شكّور ليس من أولئك الفنانين الذين يتصارعون مع أدواتهم، ولا مع لوحاتهم، ولا حتّى مع أنفسهم! فلو تروه كيف يغلق فوهات أنابيب ألوانه واحدًا واحدًا، ويرتّبها جميعها حسب تدرج ألوانها أمامه على الطاولة، وكيف يغسل وينظف فراشيه بعد كلّ استخدام، وعلى أيّ نحو يقف أمام المسند الخشبي ويرسم. وفي أعماله الجديدة هذه، أكثر بكثير من أعماله الماضية، نستطيع أن نرى كيف ينعدم فيها كلّ أثر لصراع مهما كان. وعلى أيّ نحو يتسق مع، ويسالم بين، كل أجزاء ومفردات عمله. من هنا تتأتّى فرادة هيثم، وفرادة الفرصة التي تتيحها هذه الأعمال لنا، أن نقف أمامها، ونتأمل عن قرب، تلك الروح التي تفشي السلام في كل شيء ومع كل شيء. السلام الذي نفتقده كأفراد، وكشعوب، وكنوع، و… كعالم. أمّا إذا رغبنا بإغلاق الدائرة، ورجعنا إليه كصيّاد، فإنّه، أقول لكم، من ذلك النوع من الصيادين الذين يشفقون على السمك.
2- اللاذقيّة عروس هيثم!
اللاذقيّة، المدينة التي يطلق عليها السوريون لقب: (عروس الساحل)، يا له من اسم بريء لحدّ السذاجة! التي لأسباب عديدة لم تستطع النأي بنفسها عن أخواتها الأرامل والثكالى في الداخل السوري المحترق حتى النهاية، هنا عند حافة الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ذلك البحر القديم، بحر الفينيقيين أصحاب الأبجدية الأولى، ومحاربي الإغريق، والرومان راضعي أثداء الذئاب، الذي يقبع في أعماقه جوبيتر العظيم! الناجية من مصيرهن البائس… حلب وحمص ودير الزور والرقة ودرعا وإدلب وغيرها من المدن السوريّة المنكوبة بالحرب التي دارت رحاها في شوارعها وساحاتها وعلى أسوارها، فطحنت ثلثي المعمار السوري، وشرّدت ملايين السوريين، وقتلت ما لا يعرف أحد عدده مهما ادعى التدقيق والمتابعة. غير أنّ اللاذقيّة هي بدورها مدينة منكوبة، ملوَّعة بفقدانها ألوفًا مؤلّفة من فلذات أكبادها، استشهادًا وهجرةً وتغييبًا، صابرة على شظف العيش على حدود الفاقة والخوف والتهديد بما هو قادم من كوارث، ذلك أنّ النجاة ليست دائمًا كلّ شيء، فربما، يلحق بالناجين، وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم، مصير أشدّ إيلامًا وأشدّ فجاعة. يصلّي أهل اللاذقيّة، ويدعون الله، إن لم يستطيعوا تجنب هذا المصير، أن يلطف به.
للمرّة الثانية، يسافر هيثم شكّور إلى السويد، حيث لديه أقارب، وللمرّة الثانية يعود إلى سورية، إلى اللاذقية، بالرغم مما ذكرت. وحيدًا، أنا من أتقصّد لقاءه وزيارته، يحيا هيثم مع نبيلة أخته العزباء، هيثم أيضًا لم يتزوج، رغم أنّي يومًا، كدت أنجح في توريطه بفتاة رائعة… أقول، كدت. هيثم مصرّ على أنّ عروسه… اللاذقية!
3- السؤال:
ترى، أيّهما الأصح؟ إذا كان هناك في العالم ما هو صحيح وما هو خطأ. أيّهما يحمل المعنى، الإرادة الحرّة، العاطفة الحرّة، أن تكون المدينة التي تنتمي إليها، مدينتك، هي المدينة التي، بالصدفة، ولدت فيها، أم المدينة التي اخترتها، لتعيش حياتك فيها، بقصد وتصميم؟ أي، الانتماءين أصدق؟
أحبّ أولئك العابرين للمدن! مدينة بعد مدينة، عندما يصلون إلى مدينة ما، تشبه المدن الأخرى عمومًا، أنت شخصيًّا، لا تستطيع أن تفرق، يشعرون أنّ هذه المدينة بالذات لا يستطيعون مغادرتها، وأنّه آن الأوان ليحطّوا رحالهم، ويكون لهم مدينة يسمونها مدينتهم.
4- من هو هيثم شكّور؟
عام 1956، ولد وترعرع وتعلّم حتّى نهاية المرحلة الثانويّة، في مدينة (جسر الشغور)، التي تتوزع أبنيتها وحواريها على ضفّتي نهر (العاصي)، كنقطة علّام على بلوغ المسافر منتصف الطريق الواصل من اللاذقيّة إلى حلب، والتي أُلحقت بمحافظة (إدلب) المحدثة في آخر تنظيم إداري للقطر الشمالي، خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر، 1958-1961، بعد أن كانت تابعة، منذ سنوات الانتداب الفرنسي لمحافظة اللاذقيّة. هاجرت عائلة شكّور من (الجسر) متّجهة إلى مدينة اللاذقيّة في النصف الثاني من عقد السبعينيات من القرن المنصرم، حيث أدّى هيثم خدمته العسكريّة في سلاح البحريّة، وتعرّف خلال عمله في مؤسّسة الإسكان العسكري على البروفيسور المعماري البولوني (زابوسكي)، مصمّم المدينة الرياضيّة في اللاذقيّة، وكان له التأثير الأكبر في قرار هيثم المصيري، بأنّ الرسم، الّذي مارسه فطريًّا منذ طفولته وتعلّمه على يد الطبيعة، هو ما سيحدّد مستقبله ويعطي معنى لحياته، فأقام في المركز الثقافي في اللاذقيّة، وخلال سنتين متتاليتين 1982-1983، أوّل وثاني معارضه الشخصيّة، ولم يكن مفاجئًا أن تسود فيهما المناظر الطبيعيّة، الأشجار والصخور والبيوت والطرق، المرسومة بالألوان الزيتيّة والمائيّة، المستمدّة خطوطها وألوانها من خطوط وألوان البيئة المحليّة، بعدها أقام العديد من المعارض الخاصّة، كما اشترك في الكثير من المعارض الجماعيّة السوريّة والدوليّة، في (دمشق)، وأغلب المدن السوريّة، وكذلك اللاذقيّة، كما عرضت واقتنيت أعماله في لبنان وفرنسا والسويد وألمانيا حيث كُلف برسم جدران أحد كنائسها.
هيثم شكّور يمكن لي التأكيد، ليس كبقيّة الرسّامين، يرسمون وهم في حالة انفعال عصبي أو هياج عاطفي، تقودهم أحاسيسهم وأمزجتهم في اختيار مواضيعهم وأساليبهم، وحتّى في مواقفهم وتصرفاتهم مع محيطهم. بل إنه رسّام تأمّل وتفكّر، كما هو رسّام تأنّ وصبر، لا شيء في لوحات هيثم وليد الصدفة المحضة، لا شيء اعتباطيا، نعم، قد يفاجئه جمال لون قرب لون، أو اتّساق خطّ مستقيم بجانب خطّ مقوّس، أو عفويّة ضربة ريشة فوق ضربة ريشة، ولكن، دائمًا، لكلّ هذا، قياساته وتخطيطاته ودراساته المسبقة. هيثم شكّور أحد الرسّامين القلائل الّذين أعرفهم اليوم، وربما، الرسّام الوحيد الّذي أعرف اليوم، ممن يقوم برسم مسوّدات (كروكيّات) عديدة لعمله، حتّى يصل إلى المسوّدة الأخيرة التي يرضى عنها، فيقوم بتنفيذها، وإن ليس حرفيًّا، وليس آليًا بالتأكيد، فكثيرًا ما رأيته يبدّل ويعدّل العديد من التفاصيل الصغيرة، وبعض الكبيرة فيها، دافعًا باللوحة إلى أقرب حالة كمال يمكنه أن يوصلها إليه.
غير أنّ الأحاسيس لا تنقص أعمال هيثم، كيف لأحد أن يقول هذا عنه، وخاصّة أنا بالذات، الذي أعرفه عن قرب، الرحمة والحنو والرقّة والحبّ والأناة والصبر والحلم، هي الأحاسيس التي يرسم بها هيثم شكّور صيّاديه وقديسيه، وعشاقه أيضًا حاملي التفاح والزهور. انظروا إلى بساطة تلك الزهور، زهرة وحيدة تكفي، فليس هناك من باقات، تفاحة وحيدة تكفي، فليس هناك من سلال، تحملها (مريماته)، انظروا إلى أيديهن المرفوعة والممدودة على مداها، أو المحنيّة والمنخفضة حياءً، انظروا إلى أصابعهن المضمومة التي تمسك بها، انظروا إلى عيونهن المغمّضة، وهن، دون مقابل، دون شرط، سوى، ربما، أن نكون بشرًا، يقدّمنها لنا.
5- عودة الصيّاد:
في مجموعة أعماله الجديدة: (عودة الصيّاد)، التي كانت وراء فكرة كتابتي هذه عنه، بعد تلك السلسلة من الأعمال، التي عرضها منذ ما لا يقلّ عن عقد من السنين تحت عنوان (حلم صيّاد)! ننتبه إلى الإصرار على صفة (الصيّاد) صيّاد السمك، ذلك أنّ اللغة العربيّة لا توفّر، كالإنكليزيّة على سبيل المثال، مفردة ثانية تفرّق بين كلمتي (Hunter) و(Fisherman).
لذا، كما اقترح توفيق الصايغ أن يطلق على الفنان التشكيلي لقب (طرّاش) كترجمة مباشرة لكلمة (Painting)، أقترح بدوري لقب (سمّاك) لصياد السمك، كترجمة مباشرة لكلمة (Fisherman). ولكن في الحقيقة، بالنسبة إلى هيثم شكّور الرسّام الّذي ترك ضفّة نهر العاصي المتجه شمالًا، خلافًا لبقيّة أنهار المنطقة، الفرات ودجلة، وقريبه النهر الكبير الشمالي، وجميعها تنساب جنوبًا! والمناظر الطبيعية التي رسمها بداية تجربته هناك، ليجد موضوعه المفضّل رسم صيّادي السمك وشباكهم وقواربهم وتفاصيل حياتهم الوادعة. أعرفه، وأعرف أنّه ليس صيّادًا، إذ لا يمكن له أن يحوز على هذه الصفة، بمجرد رسمه للبحر والشباك والسمك، سوى بمعنى واحد… هيثم شكّور صيّاد إيمان وأمل ووعد، ببشر أجمل، وحياة أجمل، وعالم أجمل، و… فنٍ أجمل. لا وجود للبشاعة والقسوة والشرّ، فما بالك بالقبح والوحشيّة والعدم التي ينهل منهما الفن اليوم، لا وجود للكره والحرب والموت، في العالم الّذي يرسمه لنا هيثم، لا في مضامينه على خصوصيتها ولا في أساليبه على تنوّعها، ولا فيه كإنسان يحيا معنا وبين ظهرانينا، ويشاركنا ما آلت إليه حياتنا من ضيق ويأس وانسداد أفق… وكأنّ هيثم بهذا، على طريقة معلميه الكبار، كلّ منهم على حدة، وفي نفس الوقت، مضمومين ومجبولين معًا… (جيوتو) و(روبليف) و(ماتيس)، ولماذا لا، بل نعم بالتأكيد، (نزار صابور) صديقه اللاذقاني، يعيد لنا روح كلّ شيء وألق كلّ شيء…