منظّر بزاوية تصوير ثورية

صورة واحدة تكفي لإثبات أن العالم خطأ

Last updated:
ماهر حمصي
مؤسس و مدير بلا رتوش

كل واحد صار منظّرًا وباحثًا ما إن يشتري نظارة سميكة وكوب قهوة حاملًا لشعار فلسفي مقلوب في الصورة، كأنه انعكاس لعقله. والفوضى في حفنة شعر مبعثرة نبتت فوق وجه قاحل، كأن القحط حاول أن يتجمل وفشل.

يتقمص دور الحكيم، بينما ينهض ليقلب صفحة كتاب لم يفهمه ثم يعود ليستريح من عناء القراءة أمام كاميرا جاهزة.

يجلس في المقهى ذاته منذ عشر سنوات، ينتظر “اللحظة التاريخية” كي يكتب جملة قد تغيّر العالم.
اللحظة تمر بجانبه وتهرب، وهو منشغل بإعادة ضبط وضعية ذقنه كي تطل بزاوية ثورية.
يتأكد أن الجملة الافتتاحية لا تُظهر جهله، فيفضّل أن تبدأ بشتم المجتمع الذي لا يستمع له، رغم أن المجتمع لم ينتبه أصلًا لوجوده.

هو لا يتدخل. يلمّع. يلمّع صورته في مرآة مشروخة تخاف أن تجرحه. يختبر وطنية الآخرين عبر قياس عدد الإعجابات.

يكتب: “قلت لكم”، وهو يراقب من بعيد ما يدور، يصرخ في فراغ الغرفة، يلتفت ليتأكد أن أحدًا سمعه، ثم يكتفي بتحديث الصفحة.
يدخل معركة الحرية على شكل هاشتاغ. ينتصر دائمًا. يحمّل المجتمع مسؤولية خيبته، ثم ينشر رابطًا لمقالته عن “دور المثقف في إنقاذ الوطن” ويراجع الإشعارات كل دقيقتين كي يطمئن أنه ما زال موجودًا.
يأخذ صورة مع كتاب ضخم كجثة ثقيلة، أصعب صفحة فيه العنوان. يضعه على الطاولة. أنجز المهمة.

حين تشتعل السياسة يختفي. ينتظر أن تنضج، ثم يأتي ليوقّع على النصر باسم “الكلمة الحرة”. يقول إنه يخاف على أفكاره من التلوث. الحقيقة؟ يخاف على رأسه من السقوط. يفضّل أن يكتب عن الشجاعة وهو يرتدي خوذة نجاة من الكلمات نفسها.

الناس تلهث خلف لقمة. هو يلهث خلف إعجاب من مجهول.
يبني مقالات جديدة بالنسخ واللصق. يسمّي ذلك خيالًا، كأن الخيال لم يخجل بعد.
الأجمل حين يدّعي أنه حامل شعلة التنوير.
شمعة صغيرة تتراقص في يد مرتجفة.
كلما هبّ هواء الواقع انطفأت. يعيد إشعالها.
يلتقط صورة واحدة أخيرة، ينسى أن ينير بها الطريق الذي يتباهى بأنه الوحيد الذي يعرفه.

في النهاية…
بعد كل ذلك، يلتقط سيلفي أخيرًا مع جملته الأكثر شجاعة:
“الوعي مسؤولية”.
ينشرها فورًا، يتأكد من أنّ الإضاءة عادلة بين وجهه والزاوية الثورية لذقنه. يقرأ التعليقات بفخر. عشرة إعجابات في دقيقة واحدة. يقتنع أنه قد أدّى رسالته كاملة. يعود للنوم مرتاحًا.
الوعي ينتظر غدًا.
الوعي دائمًا ينتظر غدًا.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية