الحرّية.. نسرٌ محلّق أم خيال المآتة ؟ …لـ: منذر مصري

منذر مصري
شاعر وكاتب وفنان سوري

لدي مشكلة مع كلمة (حرّية) أعترف. أوّلًا من حيث كونها، كما قلت، كلمة، تعبير، مصطلح، فلقد تعلّمت منذ بداية وعيي الفكري، أو قل في بداية محاولتي أن أعي فكريًّا ما أنا عليه، أن أبتعد عن تقديس الكلمات، عن جعلها أصنامًا، وأعبدها، وهذا بالحرف ما كان يردّده أمامي كلّ يوم، ويستطيع الراغب منّا بكل سهولة قراءته في كتابه (المذهب الجدلي والمذهب الوضعي) الصادر في 1/8/1991 بعد وفاة صاحبه بأشهر معدودة، ص5: “إنّ الركيزة الأساسية والطبيعية هي أنّ الإنسان صاحب اللغة، (أداة الفكر وشرط الاجتماع والإنتاج والحياة البشرية) وصانع أصنامها مع الأصنام الأخرى، يحتاج إلى كلمات -مخدّات يرتاح برأسه عليها- وينشئ في العالم الجدلي والصراعي والشيئي، قاموساً وثنياً (شيئياً) ومانويًّا… هذا القاموس يختلف بين فئة وأخرى، لكنّ أسوأه، قاموس المثقّف، فهو ذهني، لا حسّي.. المثقّف يوثّن الكلمات” إلياس مرقص.


أوصلني هذا، رفض اعتبار الكلمة، أي كلمة، حرّية، ثورة، شعب، كرامة، تحمل القيمة بحد ذاتها، بل بتفاعلها مع الواقع، ما يجني منها الناس في حياتهم اليومية، ليس ضعف سليقتي اللغوية كما يعتقد البعض، كشاعر، إلى موقف سلبي من اللغة ذاتها، من فكرة اللغة كجوهر، مصرًّا على أنّها وسيلة، أداة، لكتابة الشعر لا غايته، مادته لا قضيّته. وفي الوقت ذاته، لم أكن أرى في هذا تقليلًا من شأن اللغة ودورها في الشعر، فلا أحد ينكر أهمّية الوسائل والأدوات، وأهمّية تحسينها وتطويرها، وإبدالها بأدوات أجد وأنجع، عندما تقدم وتفلّ، في أيّ عمل، النجارة والجراحة وصناعة السيّارت، والسينما، وأيضًا الشعر. معلنًا أنّ هناك في القصيدة حربًا بين الشعر واللغة، وأنّه على الشاعر، بما أنّه شاعر تحديدًا، أن يختار في أيّ صفّ يقف؟ وأيّ سيّد يخدم، كما يقول المسيح في إنجيل متى 6:24: “لا يستطيع أحد أن يخدم سيّدين، إمّا اللّه وإمّا المال“. أي أما الشعر وأمّا اللغة، وثانيًا من حيث تفشّي استخدامها على هذا النحو المبخس بحقّها، كما حين يتم الاستشهاد، بما قاله يومًا، ولو باختصار وتحريف بعض كلماته، السيد بنجامين فرانكلين: “من يضحّي بالحرّية من أجل الأمن لا يستحقّ أيّا منهما. وسينتهي به الأمر بلا خبز ولا حرّية”. بينما ترجمته الحرفية: “الذين يتخلّون عن الحرّية الأساسية من أجل شراء بعض الأمان المؤقت، لا يستحقون الحرّية ولا الأمان.” ولكم أن تلاحظوا كبير الفرق، إلّا أنّي رغم هذا أجد أنّه قائم على فرضية فاسدة، ناقصة، فهو يتجاهل، يغضّ النظر عن الظرف الذي يجري فيه هذا التفضيل، والذي يدفع البشر لتفضيل الخبز عن الحرّية، فمثلًا، ما رأيك إذا كانوا يموتون جوعًا؟ وما بالك إذا كان لديهم أطفال جائعون! أليس من البديهي والمعترف به ذلك السلم الذي تتصاعد فيه الحاجات الإنسانية من الحاجات الفيزيولوجية، الهواء، الأكل، الشرب.. إلى حاجات الأمان، والاحتماء بالجماعة، ثمّ صعودًا درجة درجة إلى قمّته حيث تظهر الحاجات المعنوية كالحرّية والكرامة وإثبات الذات وما إلى ذلك؟ أمّا إذا وضعنا كل هذا جانبًا وقبلنا بمقولة السيد فرانكلين، بأنّ من يفضّل الأمان على الحرّية لا يستحقّ أيًّا منهما، فالسؤال إذًا، ماذا برأي السيد فرانكلين، أبرز ملّاك المزارع والعبيد في فيلادلفيا، يستحقّ هؤلاء البشر؟ الإعدام؟ الموت؟ أو، وهذا كما يبدو الحلّ الأفضل، أن يبقوا عبيدًا! ثمّ تأتيك شخصية إعلامية عربية معروفة، تردّد هذه المقولة وتزيد عليها: “…وهذا ما حصل فعلاً مع السوريين الذين فضّلوا الخبز على الحرّية، انتهى بهم الأمر بلا خبز ولا حرّية. وأنا أقول: لا يفضّل الخبز على الحرّية سوى الدواب”. ماذا؟ دواب؟ لا فضّ فوك يا رجل! أيصحّ قول هذا عن الناس والشماتة بهم لمجرّد أنهم اختاروا الأمان أو الخبز، أي البقاء أحياء ولا شيء آخر؟ ثمّ من هم السوريّون الذين وضع أمامهم طبق الحرّية الشهيّ وربطة خبز الدولة التي لا يأكلها الأغنياء ولا أنصاف الأغنياء، فاختاروا، لكرههم الحرّية، ولتولّعهم بالعبودية، ربطة الخبز؟ أنا أسأل وأنا أجيب، نعم هناك سوريّون اختاروا الخبز، السوريون شعب ربطة الخبز، قلت هذا مرّات، ولا أجد فيه ما يعيب الشعب السوري، ولكن ليس على الحرّية، بل على الجوع، على جوع أطفالهم، وربّما موتهم جوعًا. ذكرت هذا مرّة، ولكنّي أعود وأذكره، فكيف لي أن أنساه، ما قاله قريب لي يعمل حمّالًا في المرفأ: “لا تظنّ الموت أصعب من أن تعود إلى بيتك وأنت لا تحمل بيدك شيئًا وترى أطفالك جائعين”. انتبه لهذا يا حرّ. أمّا ثالثًا، وربّما كان يجب أن أضع هذا، إكرامًا لكم، أوّلًا، الحرّية بالنسبة إلي كلّ شيء! الذين يعرفونني يعرفون أنّي لا أعرف حدودًا في رسمي وشعري! لا شكلًا ولا موضوعًا ولا فحوى! قلت في شعري ورسمي، ولا أحد يستطيع أن ينكر إنّهما علّة حياتي وفحوى وجودي، منذ بداية بدايتي كتبت:

/

الخاطفة..] 13/11/1973

وكذلك أيضًا في فكري، ومواقفي، يومًا لم أقيّد نفسي، ولم تدفعني مصلحتي، أو أيّ دافع آخر، لأكون عضوًا في حزب، أو اتّحاد الطلبة، أو اتّحاد الكتاب العرب، أو في نقابة الفنون الجميلة، ويومًا لم أظهر في برنامج تلفزيوني في بلدي، ولم اشارك في أيّ مهرجان شعري رسمي، وبوم جائتني دعوة للمشاركة في مهرجان المحبة، رفضت، رغم التهديد المبطن لمعاون الوزيرة آنذاك. وهناك ما كتبته طوال ربع القرن الأخير من حياتي، حين بدوت وكأنّي وضعت الشعر والرسم جانبًا، ما سمح للبعض أن يظنّ أنّي أبطلتهما، وبدأت بكتابة سيل دافق من المقالات الممغصة اللأمعاء، الموجعة للبطن، كما وصفها يومًا عبّاس بيضون، في الشأن السوري العام، نشرت معظمها في الصحف اللبنانية، حتّى إنّه صدف ونُشر لي ثلاثة مقالات على صفحات السفير والنهار ونوافذ المستقبل في يوم واحد، في الوقت الذي كان يعدّ هذا في بلدي، من قبل جهات رسمية وغير رسمية، نشرًا لغسيلنا الوسخ على مرأى من الآخرين، الأعداء عمومًا، معرّضًا نفسي ومعي عائلتي لكلّ ما يعرفه الجميع من مخاطر تجاوز الخطوط الحمر، والوقوع في المحظور بأنواعه. في كتبي غير الشعرية: (سوريا بلدي كما خالدية أمي: مليون حلم يؤكّد الواقعة. 2000-2010)، و(مغلقة بسبب الإصلاحات-2016)، و(إلى جميع الأهل والأقارب والأصدقاء في الوطن والمهجر-2023)، التي قد لا يجد الكثيرون فيها شيئًا ذا أهمية كبيرة، سوى أنها تقدم شهادة لا مواربة فيها على وقوف صاحبها مع ضميره وأهله وشعبه منذ اللحظة الأولى لقيامتهم في سبيل الحرّية والكرامة والحياة الأفضل! دون أي تردد، ودون أي حساب للربح والخسارة، كما كان همّ الكثيرين، فليصدّق هذا من يصدّق، ويكذّبه من يكذّب، أقوله، كالعادة، لأصحاب الضمائر من أيّ طرف كانوا.

أمّا السوريون فلا أظنّهم سمعوا، بأغلبيتهم العظمى، ماذا قال النبي سليمان بن داوود في سفر الجامعة: “للحب وقت وللكره وقت. للحرب وقت و للسلام وقت” ولكنّهم يقولون بدورهم: “للخبز وقت وللحرّية وقت“! وترينا الصور التي التقطتها بهاتفي النقّال (سوني آريكسون)، الذي عندما اوقفت، منذ /14/ سنة خلت، عند حاجز مقبرة الروضة، قال لي الضابط، هذا الهاتف ممنوع في سوريا، فأجبته أني ابتعته من محل في اللاذقية، كم تاقوا إلى الحرّية، وكيف تحوّلت تلك الحرّية التي كتبوها على جدارن مدينتهم، بعد طلسها بالزفت الأسود، إلى نسور وعنقاوات وفزّاعات وخيالات المآتة.

1- (حرّية تحت الحصار) أحببت أن أبدأ الألبوم بهذه الصورة، حيث كلمة حرّية المطلوسة جزئيًّا بدهان أزرق على غير العادة، بين مجموعة من الكلمات المطلوسة تمامًا وما عادت مقروءة، وكأنّها محاصرة بها! الأمر الذي يكاد يفقد الصورة، للأسف، أيّ قيمة تشكيلية.

2- (حرّية مجنّحة وقلب أحمر) هنا تختفي كلمة الحرّية وتتحول إلى شكل طائر محلّق. وبجانبها رسم طفل قلبًا أحمر. ما أنتج عملًا تشكيليًّا لافتًا.

3- (حرّية سوداء مجنّحة) طائر برأس أقرب لرأس وحش، وبقعة حمراء على جانحه الأيسر وكأنّها جرح ناتج عن الإصابة بسهم! بدورها الصورة برأيي كرسام، عمل تشكيلي جيد لحدٍّ بعيد.

4- (حرّية بالأحمر مطلوسة بالأسود) وإن ليس بالكثافة المعتادة، لأنّنا نستطيع تمييز أجزاء من كلمة حرّية بالأحمر تحت الطلس. يلاحظ أعلى ووسط الصورة وجود شبّاك ذي إطار معدني عريض. ما صنع تركيبًا فنّيًا مختلفًا عن الصور السابقة، ربّما ذا معنى أبعد، وخاصة عندما نرى النافذة معتمة!

5- (خرّية خرّية) يبدو وكأنّه هناك نقطة فوق الحاء! أذكر زوجة صديق لي روسية أو ربّما بيلاروسية، تلفظ، كبقية الأجانب، وخاصة الروس، وكذلك كبار السنّ من الأرمن، حرف الحاء خاءً، رغم توطّنها في سورية منذ سنين كثيرة، مرّة، في بداية الأحداث، أيّام المظاهرات، قالت لي على الهاتف تصف ما رأت وسمعت الناس يهتفون به تحت بيتها: “خرّية خرّية”. تبعتها بجملة لم أستطع نسيانها لليوم: “انتبهوا لا تخرّبوا بلدكم”!

6- (الحرية كائن خرافي) خيال المآتة، غول، أو لا أدري أيّ كائن مخيف هو. رأيته، آخر مرّة، يجرجر ظلّه الثقيل على سور إحدى البنايات في حي مشروع الصليبة، بعدها اختفى!

7- (لا يوجد صورة!) هناك لأمير الشعراء أحمد شوقي، قصيدتان في هجاء الزعيم المصري أحمد عرابي قائد ثورة الضبّاط والجنود والفلاحين المصريين ضد الخديوي محمد توفيق باشا، التي بدأت بمظاهرة سلمية في ميدان عابدين في القاهرة، يناير – كانون الأوّل1981، وانتهت بهزيمة عسكرية على يد الجيش البريطاني، 13 سبتمبر-أيلول 1982. أحفظ منهما، وهذا يعدّ شيئًا جيدًا جدًا بالنسبة لي، هذا البيت:

إلّا أنّ البيت الشعري الأشهر لأحمد شوقي والذي طاب لرافعي شعار الحرّية والثورة أن يردّدوه ما شاء لهم هو:

[وللحرّية الحمراء باب…..بكلّ يدٍ مضرّجة يدقّ]

 وبالـتأكيد لست أنا من لديه أدنى اعتراض على هذه الصورة الشعرية البليغة كمشهد حيّ يمكن للمرء أن يتخيله بكل تفاصيله، وكمعنى ومضمون إنساني حر في الوقت ذاته! ولكن ما أحببت توضيحه دائمًا، هو أنّ اليد التي تدقّ باب الحرّية، برأيي، مضرّجة بدم صاحبها لا بدم سواه!


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية