في إحدى جرائمها في حق الشعب الفلسطيني، والتي ظلت مخفية لوقت طويل، دأبت السلطات الإسرائيلية على سرقة الأعضاء من جثث الشهداء الفلسطينيين، وهو ما كشفه عدد من التقارير وكذلك شهادات أطباء إسرائيليين شاركوا في هذه الممارسة الإجرامية.
تمتلك إسرائيل أكبر بنك جلود في العالم، وهو منشأة طبية تخزن الجلود البشرية، لاستعمالها لاحقاً في معالجة الحروق والسرطانات الجلدية. وجرى تشييد هذا البنك في عام 1986، بإشراف من قطاع الطب العسكري التابع للجيش الإسرائيلي، ويقدم خدماته على مستوى دولي، بخاصة طلبات الدول الغربية.
بالمقابل، يختلف هذا البنك الإسرائيلي عن باقي البنوك حول العالم، بأن مخزوناته من هذه الأعضاء الحيوية لا تأتي من متبرعين طوعيين فقط، بل سجلت عمليات سرقة جلود من جثث شهداء فلسطينيين، وهم الذين تُسرَق أعضاؤهم أيضاً، في إحدى الجرائم البشعة التي تنفذها السلطات الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني، والتي ظلت لوقت طويل طي الكتمان.
وأكد عدد من التقارير سرقة الجيش والسلطات الطبية الإسرائيلية أعضاء الفلسطينيين، كما أثبتت شهادات لأطباء شاركوا في العملية وقوع تلك الجريمة. وبالإضافة إلى هذا، هناك أدلة على متاجرة الإسرائيليين بهذه الأعضاء المسروقة، إذ تعد البلاد أكبر سوق للأعضاء بالشرق الأوسط.
أعادوا جثثهم بلا أعضاء!
تعود تفاصيل القصة إلى عام 2001، حين نشر الصحافي السويدي المختص في التحقيقات، دونالد بوستروم، تحقيقاً كشف فيه سرقة الأعضاء من جثث الشهداء الفلسطينيين والاتجار بها من قبل جهات إسرائيلية، وكانت هذه أول مرة يجري فيها كشف هذه الجريمة للرأي العام الدولي.
ولم يقف عمل بوستروم عند هذا الحد، بل عاد لينشر تحقيقاً آخر عن الموضوع نفسه في عام 2009، على صفحات مجلة أفتونبلاديت السويدية. ويذكر التحقيق أنه في عام 1992، أطلق رئيس وزير الصحة الإسرائيلي إيهود أولمرت حملة قومية للتشجيع على التبرع بالأعضاء، لكن مع ذلك ظلت الفجوة واسعة بين الطلب والمعروض من تبرعات.
وتزامناً مع تلك الحملة، بدأت حالات اختفاء عدد من الشباب الفلسطيني، ليعودوا بعدها في نعوش مغلقة، وتفرض السلطات الإسرائيلية على أهاليهم دفنهم في الليل دون جنائز.
ويقول بوستروم: “كنت في المنطقة في ذلك الوقت، وفي مناسبات عدة، اتصل بي موظفو الأمم المتحدة قلقين بشأن التطورات. قال الأشخاص الذين اتصلوا بي إن سرقة الأعضاء حدثت بالتأكيد ولكن جرى منعهم من فعل أي شيء حيال ذلك”.
كانت هذه الاتصالات دافع الصحافي للنبش أكثر في القضية، وذهب لمحاورة عوائل أولئك الشهداء، الذين أكدوا له أنه جرت سرقة أعضاء أبنائهم قبل قتلهم. من بينهم كان ابن عائلة الشهيد بلال أحمد غنان، الذي كان يبلغ من العمر 19 سنة حينما اعتقله الجيش الإسرائيلي في قرية أم التين في الضفة الغربية عام 1992، ليعود بعدها جثّة بلا أعضاء داخلية، مخاطة من العنق حتى أسفل البطن.
ولم تنف السلطات الطبية الإسرائيلية ما تعرضت له جثة بلال من تنكيل وسرقة لأعضائها. وقال مدير معهد الطب الشرعي الإسرائيلي وقتها، تشين كوغل، إن عائلة بلال يمكن أن تكون على حق، لأنهم “أخذوا كل ما أمكن أخذه من كل الجثث التي جاءت إلى معهد الطب الشرعي”. ذلك دون موافقة الأسرة، ولم تتلق أي تفسير أو اعتذار أو تعويض عن ما حصل.
اعترافات إسرائيلية بسرقة الأعضاء
وفي فيلم وثائقي عن القضية، عام 2009، اعترف المدير السابق لمعهد الطب الشرعي الإسرائيلي، يهودا هيس، بسرقتهم أعضاء الشهداء في المعهد. وقال هيس: ” لقد أخذنا القرنيات والجلد وصمامات القلب والعظام (من جثث الشهداء الفلسطينيين).. كل ما جرى القيام به كان غير رسمي إلى حد كبير. ولم يطلب إذن من الأسر”.
وفي دراستها عن التعامل مع أجساد الفلسطينيين في مركز أبو كبير للطب الشرعي في تل أبيب، والتي نشرتها في كتاب بعنوان “على جثثهم”، قالت الباحثة الأنثروبولوجية ميرا ويس، إنه أثناء وجودها في المعهد “شاهدت كيف يأخذون أعضاء من جسد الفلسطينيين وبالمقابل يتركون جثث الجنود سليمة”.
وأضافت الباحثة: “إنهم يأخذون القرنيات والجلد وصمامات القلب، بشكل يجعل غياب تلك الأعضاء لا يلاحظه غير المتخصصين، إذ يعوضون القرنيات بأجسام بلاستيكية وينزعون الجلد من الخلف كي لا تراه أسرة (الشهيد). بالإضافة إلى ذلك، يجري استخدام جثث الشهداء في كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية لأغراض بحثية”.
وذكرت فيس بأنه “في الانتفاضة الأولى، سمح الجيش فعلياً للمعهد باستخراج أعضاء من الفلسطينيين بموجب إجراء عسكري يتطلب تشريح جثة الأسرى الفلسطينيين. ورافق إجراء التشريح إزالة الأعضاء، والتي استخدمها بنك الجلد الإسرائيلي الذي أنشئ عام 1985 لعلاج الحروق التي أصيب بها الجنود الإسرائيليون”.
يتاجرون بأعضاء الشهداء
تعد إسرائيل أحد أكبر أسواق الاتجار في الأعضاء البشرية في العالم، والأكبر في منطقة الشرق الأوسط. وكشفت تقارير إعلامية عن أن الدولة العبرية متورطة في قتل الفلسطينيين بهدف سرقة أعضائهم الداخلية والاستفادة منها بشكل غير قانوني، والمتاجرة بها ضمن شبكة دولية غير قانونية.
وفي عام 2009، ألقى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) القبض على مواطن إسرائيلي يدعى ليفي إسحاق روزنباوم، والذي اتضح بعد التحقيق معه أنه يلعب دور السمسار في عمليات بيع الأعضاء في الولايات المتحدة، لصالح خلية إجرامية يديرها حاخامات وسياسيون وموظفون حكوميون في إسرائيل.
ويرجح الصحافي دونالد بوستروم، في تحقيقه المذكور، ارتباط هذه الشبكة بعمليات سرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين التي تجري في إسرائيل. وقال بوستروم بأن “نصف الكلى المزروعة للإسرائيليين منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين جرى شراؤها بشكل غير قانوني. ولدى السلطات الصحية الإسرائيلية المعرفة الكاملة بهذا العمل، لكنها لا تفعل شيئاً لوقفه”.
وفي تقرير نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم 27 فبراير/تشرين الثاني 2016، اعترفت إسرائيل بأنها فقدت العشرات من جثث الشهداء الفلسطينيين. ونقلت الصحيفة تصريحات لمصادر في الجهازين القضائي والأمني الإسرائيلي حول فقدان 121 جثة لشهداء تحتجزهم سلطات الاحتلال منذ التسعينيات.
استمرار سرقة الأعضاء؟
وعقب انفجار فضيحة سرقة الأعضاء في 2009، خرجت الحكومة الإسرائيلية من أجل التملص من التهم الثابتة. وأصدرت المتحدثة باسم وزارة الصحة الإسرائيلية وقتها، إيناف شيمرون غرينبويم، بياناً قالت فيه إن الممارسة التي تحدث عنها التحقيق هي “قصة قديمة انتهت منذ سنوات”.
فيما لاتزال الشكوك قائمة حول استمرار هذه الممارسات غير الأخلاقية التي تنتهك حقوق الإنسان، يؤكدها استمرار السلطات الإسرائيلية باحتجاز العشرات من جثث الشهداء الفلسطينيين لديها، مبررة ذلك بكونه إجراء عقابياً.
وحسب رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة الأسرى والمحررين عبد الناصر فروانة، فإن إسرائيل ما زالت تحتجز أكثر من 370 جثماناً لشهداء فلسطينيين وعرب، استشهدوا في ظروف مختلفة، وسنوات متباعدة. وأضاف بأن لائحة هؤلاء “الشهداء المحتجزين”، تضم أشخاصاً استشهدوا من السبعينيات إلى حدود عام 2023.