دخلت برفقة الصديق الروائي الراحل خالد خليفة في شارع الأميركان في اللاذقية ونزلنا إلى قبو يطلق عليه صاحبه أسم (الغواصة ) يكفي أن يكون مرسماً. استقبلنا الشاعر والرسام منذر مصري بحفاوة ولطافة. تحدثنا في الفن واستعرض لي تجربته في الفن التشكيلي ، التي بدأ بها حياته. ولم يكن يعرف أن الشعر سيأخذ المساحة الأكبر من تجربته. وحين قلت له: سأكتب مادة عن كتاب يرسمون، اعترض وقال لي ، بقدر من المزاح ” انتبه بالنسبة لي أنا رسام يكتب !”رسامون يكتبون. لم تهمني التسمية، فما يهمني هو المنجز الذي أحضّره للنشر عن تجربته البصرية، إذ ربما لم تأخذ حقها كما يجب بالمقارنة مع الاهتمام بالمساحة الشعرية المهمة طبعاً والتي كان لها أثرها وخصوصيتها في الشعر السوري والعربي.
جلست أستمع إليه، وكان يحدثني عن البدايات وعن صداقته المهمة على المستوى التشكيلي مع الفنان مأمون صقال، صاحب التجربة الهامة التي هاجرت إلى أمريكا في الثمانينات من القرن الماضي. كما حدثني أيضاً عن معرضه مع الفنان الراحل بسام جبيلي في حلب عام 1970. حيث تعرف هناك إلى الفنان سعد يكن لؤي كياليوسواهما في المدينة . بعدها عرجنا على علاقته مع الشاعر رياض الصالح الحسين الذي كانت تربطه به صداقة عالية. تناول في معرض حديثه الكثير من التجارب التي رحل بعض أصحابها فيما لم يزل البعض الآخر باقٍ. انساب الكلام فيما بعد إلى المآل الذي وصل إليه السوريون ، وحجم المأساة الموجعة وخاصة في الآونة الأخيرة، وكادت أن تقفز دمعة من عينه حزناً. ساد بعض الصمت بيني وبينه ، إلى أن كسرته بتصوير بعض الأعمال الفنية له وأخذ صور شخصية.
التجربة الفنية
لقد بدأمنذر مصري حياته الأبداعية رساما ، وهو متمكن من أدواته الفنية ، ولديه المقدرة في الاشتغال بالحداثة التشكيلية بتعبيراتها المختلفة ، وذلك واضح من خلال مسيرته الفنية منذ بدءها بل هو وضع بصمة خاصة منذ صدور كتابه / بشر وتواريخ وأمكنة /التي نشر فيه رسومه التي عرضها بدمشق عام 1976 وتوضحت في هذه الأعمال الخطوط الأساسية لتجربته ، لوحات بالأبيض والأسود لشخوص قام فيها بالأشتغال على التقطيع للسطوح لأظهار كائناته بطريقة فيها من الحداثة المطورة بذاك الزمن ، الأحساس الغرافيكي له متعة بصرية خاصة في هذه الأعمال مثل / سقوط غير حر / . يتجه الفنان المصري نحو مناخات جديدة أو ربما يشغله موضوع ما مثل الوجوه أو الجسد ، الأشجار …..الخ وفي كل مرة يقدم تجربة متقنة وجديدة مخرجة بصريا بفنية وأساليب جديدة ، فمع الطيورالتي كانت بعنوان / تحليق ليلي / يقدم إخراجات جديدة للشكل بتكوين وتحوير مختلف مستخدما الشكل المنحي مع اللون الأصفر والأسود ، ويشتغل على الجسد بوضعيات تنبئ عن حالات انسانية متردية مثل عمل / رجل يتكئ على كرسي / ومع الشجرة التي بدأ العمل فيها منذ الثمانينات ليستعيدها من جديد في معرض خاص بعنوان /شجرة واحدة تكفيني /ومنذ مدة ليست بعيدة استكمل مشروعه حول الوجوه .الذي كان عبارة عن تخطيطات بعنوان / أخوتي / التي هي تعبير عن المرحلة التي مر بها السوريون وكأنهم يقتلون نفسهم ،وجوه معذبة تجرح ذاتها بعنف .إن الفنان المصري في رسوماته (مشابه لشعره ، متبدل الاهتمامات ، فإن رسم زجاجة خمر ،نستلذ معه بألوانها وتشكيلاتها وإن رسم عصافير نطير معه ومعها وإن خطت ريشته أشجارا نحار أيهما أجمل لنستظل بها ، أو وجوها فإننا نخشى أنيابها ووحشيتها ، أي أن منذر قاس بعذوبة وعذب بقسوة ، وأجمل مافيه أنه صادق وغزير لدرجة نؤمن معها بمقولته / أحبك وأنا تراب/.
للفنان المصري تجربة مختلفة أيضا تجلت في كتابه تجارب ناقصة ، حيث تناول شعرا لوحات من الفن العالمي ، تروي سيرة التقاطع والتفاعل مابين النثر والتشكيل ، فترجم اللوحات العالمية إلىى نصوص شعرية ، مثل، فان كوخ ،سيزان رامبرانت وغيرهم ،وقد خصص بعضا من الكتاب لتجارب موسيقيين وأجناس ابداعية أخرى
شجرة واحدة تكفيني
أقام المصري معرضه عن الشجرة في مرسمه باللاذقية عام 2021 وهو ثمرة جهد أخذ زمنا لابأس به ، وكأن شجرة واحدة تكفي لمنذر المصري ، تحب وتبتسم وتنمو ، هي تعبير عن التأمل وتعبير عن عزلة الأنسان في العموم .
قبل ذلك قال أدونيس : شجرة تسهر قرب الأنسان . ربما هي نبوءة لعالم إنساني يغفو في لحظة استيقاظ الوحوش ، لذلك نحتاج أشجار منذر مصري بحثا عن التوازن النفسي ولطمر القلق والتعب كي نتنفس هواء نقيا ، أشجار المصري تملأ فضاء الوحة نتفيأ بظلها الرطب .قدم من خلالها تنويعات بصرية من حيث الأشتغال على اللون فهناك شجرة رمادية ، زرقاء ، حمراء ، هي شجرته التي رآها حيث يمتزج فيها الشعر والرسم
أعمال الشجرة مصاغة بروية في التلوين والخط إنها تشبهه .
– يبقى المصري واحدا من التجارب المهمة وهو من هذا الجيل المعتق كنبيذ سورية ، ذلك الجيل الذي مر بخيبات كثيرة وظل يبدع في أسى الظروف ، لاشيء بالنسبه له يعيق الرسم أو الشعر سوى سقم الروح وهو يرى : أن الرسم لايعيق الشعر ، بل يدعمه ويساعده ،وخلال انكبابه على الرسم تأتيه القصائد وهذا ماعبر عنه سعدي يوسف حين كتب عن الفنان منذر مصري ( وربما كان لمقدرته التشكيلية دور في هذا الأعتبار ، مكن طموحه غلى الدقة الشعرية من التحقق عبر موازنة بين المرئي والمبصر ) . إن الشاعر والرسام منذر مصري هو واحدا من التجارب التي قدمت إغناء للثقافة السورية وشكل حالة مثلى من بين الذين اشتغلو بأكثر من جنس إبداعي
يبقى أن نذكر غن للفنان المصري العديد من المعارض وله أكثر من عشرين كتابا أهمها / آمال شاقة / ، / داكن / ، مزهرية على هيئة قبضة يد / ، الشاي ليس بطيئا / وغيرها