في أكاديمية الديكتاتورية التي تعج بالمستبدين، وقف بشار الجزار الأسد مُعَاقَباً عند الجدار طوال العقد الماضي، وذلك ليس بسبب الضحايا الذين قتلوا بأمر منه، والذين بلغ عددهم المليون قبل أن تتوقف المنظمات غير الحكومية عن العد، بل بسبب خروجه من كل تلك المجازر بحكم دولة مقطعة الأوصال وفاشلة.
انتزعت كل من روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة مناطق نفوذ في سوريا ونشرت فيها جنودها وجواسيسها على الأرض، فما شكل هذا الديكتاتور الضعيف الذي يسمح لكل ذلك بأن يحدث؟
ثم يتيح لروسيا بأن تسيطر على أجواء البلد التي يحكمها؟
وبعدها يسمح لإسرائيل بتصعيد قصفها على قواعد إيرانية أقيمت على الأراضي السورية؟!
الآن، بعد مرور 12 عاماً على حمام الدم، بدأ نجم بشار أسد بالصعود من جديد في نادي الاستبداد، ولعله سيؤلف منهاجاً بعنوان: “كيف تحافظ على ديكتاتوريتك“، فقد سمحت الجامعة العربية بعودة الأسد إلى حظيرتها، أما رئيس الصين، فقد استقبله مؤخراً في بكين ووقع معه اتفاقية شراكة استراتيجية غير واضحة المعالم. وهنالك من يتحدث عن حجز مقعد للأسد في مؤتمر المناخ Cop28 الذي تستضيفه صديقته الجديدة، الإمارات، في شهر تشرين الثاني المقبل.
كان الزلزالان المدمران اللذان ضربا الشمال السوري والجنوب التركي أحد أسباب هذا التواصل مع بشار أسد ، بما أن السوريين قتلوا بسبب هذين الزلزالين ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في تركيا، بعدما نزح كثير منهم إلى هناك من مدينة حلب خلال حملة القصف التي استهدفتها. وهذا الكم المتواصل والتعيس بين ضحايا الحرب وضحايا الكارثة الطبيعية أيقظ ضمير 22 دولة عربية. غير أن الحسابات هنا أتت مثيرة للسخرية، إذ فضح الزلزالان مدى ضعف الدولة السورية وفشلها في تأمين احتياجات ملايين النازحين، كما أظهرا حجم الأرباح التي يمكن تحقيقها عبر برنامج ضخم لإعادة إعمار سوريا.
والأهم من كل ذلك هو أن جيران أسد ومن يحمونه ومن خلقوا على شاكلته يقدرون أيما تقدير فكرة تمسكه بالسلطة بأظافره، في تحد واضح للعقوبات الغربية. أما المعارضة السورية فقد تعرض أفرادها للسجن والتعذيب والنفي في الوقت الذي أخذ فيه قصر أسد ينشر بين الفينة والأخرى صوراً لعائلة أسد وأفرادها مبتسمين جميعاً وتظهر بينهم زوجته أسماء المولودة في لندن، وأولاده الذين يحاولون إبداء تعابير جدية. إذ لا شيء يفوق البقاء في السلطة أهمية سوى استرجاع احترام بقية الزملاء من الديكتاتوريين والمستبدين.
طوال سنين خلت، كانت سوريا على استعداد لانقلاب موجه وفقاً لتوقعات المخابرات الغربية، أما منفذه فهو ماهر، شقيق بشار الأعتى منه. إلا أن بشار على الرغم من إدارته الضعيفة للاقتصاد، حافظ على النظام في محاكمه وداخل أجهزته الأمنية.
والأنكى من ذلك أنه صار يرى في نفسه مفكراً جيوسياسياً، إذ عندما أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس بايدن عن ممر للنقل بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا في قمة العشرين، ساور القلق بكين. فطريق سكك الحديد والشحن لا بد أن يشتمل على ألياف ضوئية وخطوط لأنابيب هيدروجين نظيف تمتد من الهند وتمر بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، لتصل إلى الاتحاد الأوروبي، أي أن هذا المشروع ينافس مبادرة الحزام والطريق الصينية التي انضمت سوريا إليها رسمياً خلال العام الماضي، لذا ألا يمكن لسوريا أن تكون جزءاً من الرد الذي تتزعمه الصين على تلك الدفعة الغربية القوية، بما أن سوريا من أهم حلفاء بكين في الشرق الأوسط وأكثرهم موثوقية؟
اعتاد الزعيم الصيني على وقوف الديكتاتوريين على بابه، إذ زاره خلال هذا العام رئيس فنزويلا وقادة إيران، وهم يطمحون لحصد الجوائز بعدما قدموا أنفسهم كضحايا لحرب مالية شنتها الولايات المتحدة. وخلال الأسبوع الماضي تحول بشار أسد إلى متوسل، من دون أن يتضح حتى الآن إن كان قد نجح في إقناع شي بتمويل نهضة سوريا.
تشير التقارير إلى تحلي شي بالحذر حيال فكرة الانحياز للأسد عن قرب، إذ على الرغم من انصراف بوتين إلى حربه على أوكرانيا، ماتزال روسيا أهم حليف لسوريا. ولعل سوريا ترى في موسكو تلة من المال، بعدما تدمرت البنية التحتية في سوريا وأصبحت حاجتها لبناء مساكن جديدة لا تقف عند أي حد. لذا لا يمكن لبشار أسد تحقيق معجزة التعافي التي وعد بها الزعيم الصيني والروسي إلا في حال تقديمه لعرض مغر لملايين المشردين من أبناء الشعب السوري، يقضي بعودتهم إلى بلدهم، وتحويلهم إلى قوة عاملة منتجة لا يعوزها التحفيز، وهذا بدوره يتوقف على برنامج منطقي للتحديث والإصلاحات السياسية، إلى جانب القضاء على الفساد الممنهج، لأن في ذلك مصلحة تهم المستثمرين، غير أن القضاء على الفساد يجب أن يبدأ من الرأس، أي من عائلة الأسد.
لا بد أن يعلم شي بأنه سيندم أشد الندم على المساعدة التي يقدمها لبشار أسد في الخروج من جحره، وذلك لأن التضامن بين معشر الديكتاتوريين باهظ للغاية، وخير دليل على ذلك صداقته التي لا تعرف أي حدود مع بوتين. ولكن ثمة حجة مفحمة تؤيد فكرة تجنب أسد كما يتجنب المرء الطاعون، وذلك لأن بشار أسد عندما حافظ على تدفق الأموال إلى جيوب أهله وعلية القوم لديه، جعل بلده الذي كان عزيزاً في يوم من الأيام، يتحول إلى دولة مخدرات، والآن صار الكبتاغون ينتج بكميات هائلة في مناطق النظام بسوريا وفي لبنان، ويخبرنا باحثون مستقلون بأن الكبتاغون أصبح ينتج على شكل أقراص تصل للمستهلكين في السعودية والأردن، إلا أنه أغرق المنطقة برمتها أيضاً، وثمة من يقول بأن أفراداً من عشيرة الأسد يحصلون على نسبة من أرباح الكبتاغون السنوية التي تصل إلى ملياري دولار.
سبق أن عقدت السلطات الصينية صفقات كثيرة من حكومات فاسدة، ثم إن الصفقات التي أبرمت للخروج بمبادرة الحزام والطريق عبد الطريق أمامها من خلال العطايا والهبات. إلا أن الزعيم الصيني لن يقبل بشريك استراتيجي مثل النظام السوري اليوم، بما أنه يحقق أرباحاً من خلال تجارة المخدرات، وذلك لأن العقيدة السياسية للصين تقوم على إلقاء عباءة الذل عن نفسها والتي فرضتها عليها القوى الإمبريالية، وخاصة فيما يتعلق بتجارة الأفيون التي كانت تديرها الشركات البريطانية. أي أن سقوط الحصون والموانئ الصينية بيد بريطانيا، وحروب الأفيون خلال أربعينيات القرن التاسع عشر، وإدمان الشباب الصيني عليه، كل ذلك يجعل الرئيس الصيني حذراً من إقامة علاقات تجارية مع دول تعتمد على المخدرات.
إلا أن إعادة تأهيل آل أسد تجري بسرعة كبيرة على قدم وساق، من دون أي محاسبة على جرائمهم، أو على البراميل المتفجرة التي رموها على طوابير الخبز، أو على الهجمات الكيماوية، أو على قصف المدارس وتسويتها بالأرض، لذا عليك يا عزيزي شي أن تفكر مرة أخرى، لأن الأسد ليس حالة بحاجة إلى جمعية خيرية.