إن اعتراف الأمم المتحدة بفشلها في الشمال السوري عقب الزلزال المدمر خلال الشهر الماضي قد بيّن مدى ارتباط علاقاتها بالنظام السوري.
إن بطء وصول المساعدات الدولية لمناطق المعارضة الفقيرة في سوريا عقب الزلزال، أظهر الطريقة التي يتم من خلالها استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح من قبل نظام بشار أسد بشكل اعتيادي، وفضح كل الطرق التي تضطر من خلالها كل من الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإغاثية لتقديم تنازلات بما يفيد رأس النظام وحاشيته.
ووظفت بعثة الأمم المتحدة في سوريا ابنة حسام لوقا المعاقب دوليا، لدى مكتب الصندوق المركزي للاستجابة للطوارئ التابع للأمم المتحدة في دمشق، وهي عبارة عن صندوق للطوارئ يقدم الاستجابة العاجلة عند وقوع كوارث طبيعية ونزاعات مسلحة.
في حين ذكر ناطق رسمي باسم الوكالة بأن الأمم المتحدة لا تكشف معلومات شخصية عن كوادرها، وأضاف بأن: “كل الموظفين يتم توظيفهم وفقاً لعملية توظيف صارمة”.
ولم تكشف “فايننشال تايمز” عن اسم الابنة، لأنها في أوائل العشرينيات من العمر، ولم يوجه إليها أي اتهام بارتكاب أي ذنب.
وفي وثائق سربت عام 2016، تبين بأن الأمم المتحدة سبق أن وظفت أقارب لمسؤولين رفيعي المستوى لدى النظام، وعن ذلك ذكر أحد العاملين في مجال الإغاثة بالشرق الأوسط: “لا يمكنني أن أخبركم عن عدد المرات التي دخل فيها أحد المسؤولين لدى الحكومة السورية إلى مكاتبنا وضغط علينا لنوظف ابنه”.
ممارسات التوظيف توحي بأن وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي تعمل في مناطق سيطرة النظام يمكن أن توظف أقارب لموالين للنظام، مما يخلف “أثرا مرعبا” على بعض الكوادر المحلية، بحسب ما يراه الخبراء.
إن الوكالات الأممية قدمت تنازلات وتسويات غير مريحة للنظام فيما يتصل بالأمور التشغيلية الأساسية، حيث تدفع الأمم المتحدة ملايين الدولارات – إذ دفعت في عام 2022 11.5 مليون دولار، و81.6 مليون دولار منذ عام 2014، بحسب بياناتها الرسمية – حتى يداوم موظفوها في فندق فور سيزون بدمشق، والذي يمتلك معظم أسهمه رجل الأعمال سامر فوز الذي خضع هو والفندق الذي يمتلكه للعقوبات الأمريكية في عام 2019 بسبب العلاقات المالية التي تربطه بالأسد.
ذكر فرانسيكسو غالتيري الذي بقي حتى هذا الشهر مسؤولاً رفيعاً لدى الأمم المتحدة بدمشق، بأن هذا المقر كان: “خدمة من بين الخدمات التي لم يكن أمام الأمم المتحدة من خيار آخر حيالها، بسبب عدم توفر البنية التحتية”. وأضاف بأن الأمم المتحدة طلبت أكثر من مرة موافقة النظام على استخدام مقر آخر لكنها لم تحصل على تلك الموافقة.
إن النظام سحب الملايين من الدولارات التي أتت على شكل مساعدات إنسانية، وذلك عبر إجبار وكالات الإغاثة الدولية على اعتماد سعر الصرف الرسمي الذي لا يحبذه أحد في الوقت الذي يتم فيه الاعتماد بشكل كبير على السوق الموازية، ولقد استخدمت تلك الأموال التي جمعت بتلك الطريقة لدعم احتياطي القطع الأجنبي في المصرف المركزي بحسب ما يراه الخبراء. إذ منذ أن هبطت قيمة الليرة السورية بشكل كبير في عام 2019، أعلنت الأمم المتحدة بأنها ضغطت لتحسين سعر الصرف بالنسبة للمساعدات الدولية، إلا أن ذلك لم يتم إلا في حالات ثلاث فقط.
أن تاريخ التعاون بين حكومة النظام والمنظمات الإغاثية يعود لبداية الحرب في سوريا عام 2011، حيث زادت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من وجودها في البلاد بشكل سريع، متوقعة سقوط الأسد، وذلك حتى تقوم بعمليات إصلاح سريعة، غير أن ذلك كلف الغرب مليارات الدولارات واستدعى تقديم تنازلات للنظام تخالف المبادئ الإنسانية.
وبينت أن استعادة سيطرة النظام بدعم روسي إيراني على أجزاء واسعة من البلاد، لم يدفع المنظمات الأممية إلى إعادة التفاوض على التنازلات التي قدمتها لحكومة النظام السوري.
وخلال سنوات الحرب السورية، خضعت المنظمات الإغاثية لمطالب النظام، خوفاً من حرمان مساعداتها الإنسانية من التدفق بصورة مستمرة، أو بسبب الضغط والتهديد بذلك، وفي ذلك ما يشير إلى تعرض تلك المنظمات لورطة أخلاقية عسيرة، إذ كان عليها إما أن تعمل بموجب قواعد النظام أو أن تُحرم من تقديم المساعدات لمن يحتاج إليها من السوريين.
يتعين على هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية أن تعمل بالشراكة مع وكالات وهيئات تابعة لحكومة النظام بحسب ما أوردته مصادر سورية، وعاملون في مجال الإغاثة وخبراء متخصصون.
وأهم منظمة مرتبطة بالنظام هي الهلال الأحمر العربي السوري الذي يديره خالد حبوباتي، وهو شخصية مرتبطة بالأسد، ويأتي بعد الهلال الأحمر الأمانة السورية للتنمية التي تمولها أسماء الأسد زوجة رأس النظام، والتي ما تزال تهيمن بشكل كبير على عملياتها.
يعتبر الهلال الأحمر العربي السوري أهم منظمة شريكة للأمم المتحدة في سوريا، وتمارس نفوذا كبيراً على المنظمات غير الحكومية الدولية، ولا بد للجنة حكومية من الموافقة على جهودها الإغاثية مثلها مثل كل برامج الإغاثة في سوريا، بعد قيام العديد من الوزارات وفروع المخابرات بتقديم معلومات عن تلك البرامج، إلى جانب ضرورة حصول جهود الهلال الأحمر الإغاثية على موافقة إضافية من قبل جهاز أمن الدولة بما يوحي بأن هذا الجهاز يسهم في توجيه الجهود الإغاثية، وتصف المنظمات الإغاثية عملية الحصول على تلك الموافقات بأنها عقبة كبيرة في وجه عملها.
تصدرت كلتا المنظمتين الجهود الإغاثية بعد وقوع الزلزال في سوريا، إلا أن كلتيهما لم تردا عندما طلب منهما أكثر من مرة التعليق على الموضوع.
جهود المساعدة التي تبذلها أي هيئة أممية، وجميع برامج المساعدة في سوريا، يجب أن توافق عليها الحكومة مع تدخلات من مختلف الوزارات وفروع المخابرات.
وتقول مجموعات الإغاثة إن الحصول على هذه التصاريح يمثل عقبة كبيرة أمام عملها.
وكشف تقرير أعده معهد الشرق الأوسط، أن ما يقرب من الربع من أكبر 100 مورد مدرجين على أنهم يتلقون أموال مشتريات من الأمم المتحدة بين 2019-2021 كانوا شركات إما خاضعة لعقوبات من قبل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة، أو مملوكة لأفراد خاضعين لعقوبات.
إن وكالات الأمم المتحدة: “لا تعمل على دمج ضمانات حقوق الإنسان بشكل كاف ضمن ممارسات الشراء التي تقوم بها… مما يعرضها لخطر تشويه سمعتها بشكل كبير فضلاً عن الأخطار الحقيقية التي تحيق بها بسبب تمويلها لعناصر فاعلة تمارس انتهاكات”.
من جانبها، أعلنت الأمم المتحدة بأن الهيئات التابعة لها في سوريا لا تتعاقد مع شركات أو شخصيات مدرجة ضمن قوائم العقوبات الدولية، وذكرت بأن ملكية الشركات التي تعود لأفراد تورطوا في انتهاكات لحقوق الإنسان أو غيرها من الجرائم الكبرى “يمثل سبباً وجيهاً حتى تقوم الأمم المتحدة باستبعاد البائع”، غير أنها أضافت بأنها تشترط: “معياراً للبرهان والدليل يتجاوز مجرد الشك المنطقي” بالتورط في تلك الممارسات المحظورة، وذكرت بأن “هيئات الأمم المتحدة المعنية” ستبحث في بعض المزاعم التي وردت في التقرير.
هذا ولقد أعلنت الأمم المتحدة عن تبنيها لممارسات أشد صرامة منذ الفترة التي تم التطرق إليها في البيانات، مع فسخها لبعض العقود أيضاً.
خلال 12 عاماً من النزاع الضاري، تم توزيع مليارات الدولارات على شكل مساعدات من خلال منظمات مثل هيئة الأمم المتحدة، بيد أن هيمنة النظام على قطاع المساعدات كانت بمنزلة “سر مفضوح” بحسب ما ذكره شخص سبق أن عمل بالمجال الإغاثي.
وحول المنظمات غير الحكومية والإغاثية يخبرنا ذلك الشخص الذي عمل في مجال الإغاثة فيقول إنها: “تجاوزت كل الخطوط الحمراء في الجهود المبدئية التي بذلتها لتقديم المساعدات للشعب السوري. وكانت حكومة النظام تعرف بأنها بوسعها أن تضغط علينا، وكنا إلى حد كبير نساعدها في هذا السلوك”.
ومن عادة النظام السوري فرض قيود على مرور المساعدات إلى المناطق التي تحتاج إليها، فضلاً عن توجيهه للمساعدات إلى المجتمعات التي يفضلها على غيرها، ومضايقة كوادر المنظمات غير الحكومية، وذلك بحسب تقارير منفصلة كتبتها ناتاشا هول وهي عضو رفيع في برنامج الشرق الأوسط لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وفي منظمة هيومان رايتس ووتش، ولقد اعتمدت تلك التقارير على العشرات من المقابلات وعلى ما توفر من وثائق فتحت أمام العامة من الناس.