عرف النضر بن الحارث العبدري مبكراً أهمية القصص والحكايات والأخبار، وكان ألدّ أعداء الإسلام، رحّالة قريش وشيطانها، وهو يرى القرآن يرد بأخبار الأولين والماضين، أمثال عاد وثمود وأصحاب الأيكة، فبشّر قريشاً بأخبار ملوك فارس مثل رستم واسفنديار. وكان تاجراً يرِد على ملوك فارس والروم، ويخالط اليهود والنصارى، ويزور كنائسهم وأديرتهم. ولا تزال وكالات الإعلام العالمية تحذو حذو النضر بن الحارث وتشغلنا بأخبار الملوك والمشاهير، وأنباء نجوم الكرة والسينما والجريمة، وقد غدت تجارة لدى الطغاة، إشغالاً للناس عن شؤونهم ولقمتهم.
أصدر الأمير هاري مذكراته في 500 صفحة، كتبها له صحفي أملاها عليه، وستصدر في ست عشرة لغة بعنوان البديل أو الدوبلير أو الاحتياطي، ويظنَّ أنه سيجني منها مالاً كثيراً وفخرا تليدا. لقد حُرم الأمير من شحم الإمارة، فوجد في الورم نفعاً كثيراً.
وَعدَ صاحب المذكرات أنه سيخصص بعض أرباح كتابه للجمعيات الخيرية، فأنعِمْ به وأكرِمْ. ويصلحُ وصف الكتاب بأنه كتاب سيرة، وكتاب “صراع عروش” أيضا، وصدرت طبعة مبكرة عن دار نشر إسبانية متسرعة في غير أوانها. وقيل إنه سيكون الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم، وتسرب بعضه للصحافة، وعلمنا بعضاً من خصائص الأمير وشمائله، التي سنجدها مطابقة ومماثلة لصورة البطل في السينما الأمريكية، ونجد أولها في الفروسية والحرب.
فالأمير هاري أمير “مجاهد”، وقد دعي إلى جلّى ومكرمة، فرخّص يوم الروع نفسه عندما دعا داعي الجهاد من أجل خط الغاز المقدس من أوزبكستان، فطار إلى أفغانستان يحارب الإرهابيين السادّين طريق الغاز المقدس، فاعترف بقتل 25 أفغانياً من علٍ. واستعمل تعبير القتل وليس التحييد، والتحييد تعبير لطيف ظهر حديثا، ووثّق قتلهم بالصورة، وكان الأمريكيون يقتلون الهنود الحمر أصحاب الأرض “المتوحشين” ويصلمون آذانهم للذكرى، أو يقطعون أصابعهم للمباهاة، ويتخذونها قلائد للزينة، أو يسلخون فروات رؤوسهم للمراءاة.
ومن كرم الأمير أنه ركب طائرة تحمل اسم قبيلة هندية أبيدت عن بكرة أبيها، هي الأباتشي، وقد استطاع الأمير عدّ ضحاياه، ليس بالأصابع إنما بوسائل العدّ الالكترونية، وهو عدد ليس بالكثير وليس بالقليل كما ذكر الأمير الفاضل الشجاع، إنه عدد يجعله بطلاً من الأبطال لا سيد الأبطال.
قتلهم من سماء أفغانستان من غير أن يرى وجوههم، أو يشهد دماءهم، مما سهّل عليه القتل. وهو يشبه نمط أبطال الأفلام الأمريكية القذة بالقذة، فبطل السينما الأمريكي محارب سابق، يتقن استخدام جميع أنواع الأسلحة والتمويه والقتال وإن لم ينتصر، وقد حلّت أفغانستان محل فيتنام في جيل الأفلام اللاحقة، بعد أن بَعُد بها العهد، ثم تلاها العراق
وقد قتلهم من سماء أفغانستان من غير أن يرى وجوههم، أو يشهد دماءهم، مما سهّل عليه القتل. وهو يشبه نمط أبطال الأفلام الأمريكية القذة بالقذة، فبطل السينما الأمريكي محارب سابق، يتقن استخدام جميع أنواع الأسلحة والتمويه والقتال وإن لم ينتصر، وقد حلّت أفغانستان محل فيتنام في جيل الأفلام اللاحقة، بعد أن بَعُد بها العهد، ثم تلاها العراق في الأفلام اللاحقة. غالبا ما تعتقل الشرطة الأمريكية البطل لجناية عارضة ثم تطلق سراحه بعد معرفة سيرته الذاتية من وثائق الجنايات وتكلفه بمهمة قتالية، أو يتنطع لها بوازع من نزعة الخير الأصيلة فيه، ومحاربة الشر التي جُبل عليها.
الخصيصة الثانية من خصائص البطل النمطي هي تعاطي الحشيش، وهي تأتي بعد القتل، وقد اعترف الأمير بتعاطي الكوكائين الذي بدأت كثير من الدول تشريعه رأفة بالعامل المسكين المسحوق تحت سنابك الآلات ووطأة العمل، فأمسى يباع في الصيدليات مثل حبوب الصداع، وحبوب منع الحمل، وقريباً لقاحات منع الحلم.
مفتاح مغامرة البطل الأمريكي النمطي هو “البار”، فالحانة هي أول منازل البطل، وفيه فضيلتان مؤكدتان هما؛ الخمر والقمار الذي يجيده البطل الأمريكي. والحشيش أعلى رتبة من الخمر، فتعاطي المخدرات مغامرة نفسية، شجاعة، روحية، تصعد به إلى مدارج السموّ. وللأمير مغامرة أخرى روحية هي الاتصال بأمه المناضلة ديانا، عن طريق وسيط روحي، فقد ورث هاري بعضاً من صفات أمه ديانا الثائرة على العرش في سبيل حبها، وقد نحا نحوها، واستنّ بسنّتها.
الفضيلة الثالثة هي النساء، فقد اعترف الأمير بأنه وجد نفسه في أول بلوغه في حضن امرأة تكبره سناً، وقضى وطره منها في الحديقة بين أحضان الطبيعة، وهو مشهد شائع في أفلام المذكرات الإيطالية، مثال ذلك فيلم “باراديسيو”، فعادة ما يصطحب الأب ابنه إلى أحد البيوت الحمراء بعد أن يستشعر غلمته وبلوغه، فيسلمه لعاهرة، فتذيقه من لبان اللذة أول مرة، وتطلعه على مباهج الوصال والوطء، فالشاب الأمريكي لا يتزوج مبكراً، هو غالبا لا يتزوج، فهو بطل فرد، وحيد، يقضي أوطاره في العلب والشوارع من الحسناوات المدلهات بحبه وحكمته، صوفيٌ ينام على ظهر حصانه أو في سيارته.
الأمير إلى كل هذه المحاسن والمآثر، ثائر على تقاليد العائلة المالكة، فقد تزوج من ممثلة، وكانت الأميرة ديانا قد قضت ضحية حبِّ من خارج الملّة، والأمير الظلّ قد ضاق بدور البديل الرديف، وطمح إلى دور البطولة المطلقة، فبلغها بالفضائح وكشف الأسرار، وضحّى بتقاليد الأسرة، وتزوج من ممثلة من غير وطنه، فهي أمريكية أولاً، وخلاسية ثانياً، بل وهجر المُلك وزهد فيه
والأمير إلى كل هذه المحاسن والمآثر، ثائر على تقاليد العائلة المالكة، فقد تزوج من ممثلة، وكانت الأميرة ديانا قد قضت ضحية حبِّ من خارج الملّة، والأمير الظلّ قد ضاق بدور البديل الرديف، وطمح إلى دور البطولة المطلقة، فبلغها بالفضائح وكشف الأسرار، وضحّى بتقاليد الأسرة، وتزوج من ممثلة من غير وطنه، فهي أمريكية أولاً، وخلاسية ثانياً، بل وهجر المُلك وزهد فيه كما فعل بوذا، وترك العائلة وتخلى عن الثروة واللقب، ولجأ إلى أمريكا كما يفعل اللاجئون العامّة، بل إنه يذكر أنه خاصم أخاه ولي العهد الذي ضربه حتى أسقطه على صحن الكلب. ونقدر أن صحن الكلب صحنٌ ملكي من الفضّة، وأن طعام الكلب طعام ملكي، لكن الكلب لا يزال كلباً.
وليس في المذكرات ما يوحي بكراهية الأب، أو الهمّ بقتله فعلياً أو رمزياً على ما يشيع في آداب الأدباء في الغرب ونصوصهم، وقد قتلوا الرب كما يقول نيتشه، والرب أعلى من الأب.
إن كان الكتاب سمّاً كما وصفته صحف موالية للعائلة المالكة، ومحاولة للانقلاب على العرش بالقلم، فإنّ الأمير الجريح الثائر يبدي ريبته من زوجة الأب الطامعة بالعرش والمُلك، وغيرته على أمه، ولا يجاوز شكه بأطماع زوجة الأب التي حلّت محل أمه الضحية، إلى ما حفلت به الروايات الغربية في الروايات العائلية من إلماح إلى عقدة أوديب، وفي معاشرته لامرأة كبيرة إشارة إلى ذلك، لقد حاز الأمير الثائر المجد الغربي النمطي من أطرافه.
إذا عمدنا إلى مقارنة بطولات الأمير الثاكل اليتيم هاري ببطولات أبطال العرب الغابرين، أمثال ربيعة بن مكدم في الجاهلية، أو ربعي بن عامر في الإسلام، وأمثالهما كثير، أو مناظرته بالأبطال الجزائريين الذين قُتلوا بالملايين، أو السوريين المجاهيل الذين قُتلوا تحت التعذيب، أو أبطال مذبحة رابعة في مصر، فلن نجد من دونهم ملتحدا. وإن قارنّا بطولة الأمير هاري ببطولات بشار الأسد الذي قتل مليوناً وشرد ملايين من شعبه، أو بطولات باني الجسور في مصر، فسنجد أنّ ملوكنا ملوكٌ كفاف، يقتلون الملايين من شعوبهم من غير رياء أو مفاخرة، لا يبتغون سوى رضوان الله!