الحرب تسرق وسادتي … لـ: سلوى زكزك

سلوى زكزك
كاتبة سورية

أيقظني زوجي. عاتبته بعصبية وغضب، مردّدة “خليني نام”!. أجاب “اصحي، صراخك ملأ الحارة”.

استيقظت مرغمة والنعاس يتحكّم بعينيّ، أشعر وكأنّي محطمة وبلا صوت، لكن المفاجأة العظيمة أنني اكتشفت بأنني كنت نائمة ورأسي يتركز مباشرة على سطح السرير دون وسادة! 

“أين وسادتي؟”، سألت زوجي. أشار لي بيده مستغرباً ومستفسراً، وكأنه يقول: “لا أعلم شيئاً عن مكانها”.

لقد سرقت الحرب وسادتي، أصوات القصف وروائح البارود وجلبة إغلاق الأبواب وصرير فتح الأباجورات وقد عصفت كلها برأسي. إنه المشهد اليومي مهما قالوا بأنّ القتال انتهى، تدور المعارك هنا قريباً جداً مني، تحت رأسي مباشرة، وعلى وسادتي، وزوجي وأهلي والأطباء يقولون إنها مجرّد كوابيس.

 يبدو أنني اعتدت رمي الوسادة أرضاً على يسار جسدي، ظنّاً مني بأنني أطرد الحرب. بات رمي الوسادة طقساً شبه يومي، غيّرتها عدّة مرّات ظنّاً أنّ أحدهم قد خبّأ الحرب فيها، لقتلي وتعذيبي يومياً.

 تعدّدت مضامين كوابيسي اليومية، يوماً ما داهمني كابوس لكن على هيئة حلم. كنت أقف في طابور طويل في أحد المصارف لأستبدل العملة التي تضاءلت قيمتها بعملة جديدة لها قيمة نقدية عظيمة. تأخر دوري في الطابور، فقرّرت أن أمزّق النقود وأربح راحتي والوقت. هجم الكابوس عليّ وقال: “أيتها الجاحدة، العملة رمز وطني لا يجوز المساس به!”. أيقظني صراخي يومها، وأنا أصرخ متعهدة بالحفاظ ما حييت على أقل قطعة عملة وطنية قيمةً.

شربت ماءاً، استعدت وسادتي المرمية أرضاً، سألت زوجي عن تفاصيل كابوسي لهذه الليلة. هو سمع صراخي وأيقظني فورا، هكذا أجابني بامتعاض شديد، لكنه وعدني ساخراً أنه سيبقى ساهراً على نومي، أي على كوابيسي لينقلها لي حرفياً، طالما أنني أعجز عن تذكرها وأكتفي بالصراخ، وبالتالي إزعاج زوجي وأهلي، وربما الجيران والسهارى والسكارى العابرون ليلاً.

تدور المعارك هنا قريباً جداً مني، تحت رأسي مباشرة، وعلى وسادتي، وزوجي وأهلي والأطباء يقولون إنها مجرّد كوابيس

كرد فعل أولي نقلت لزوجي رغبتي بتغيير البيت! صرخ بي هازئاً: تغيير البيت دفعة واحدة! قاطعته بنعم، وأردفت “أصلا البيت ليس بيتنا”. ظننت للحظة أنّ عودتنا إلى بيتنا قد تعيد لي نومي وأحلامي. بعبارات مقتضبة، ذكرني زوجي بأنّ بيتنا مدمّر، وتكلفة ترميمه، والأصح إعادة بنائه، تحتاج الملايين التي لا نملك منها ألفاً واحدة، عدا عن حاجتنا بعد انتهاء ترميمه إلى شراء أثاث منزلي وسيارة لأنّ حيّنا حيث يقع بيتنا، بعيد جداً، ولا مواصلات أو خدمات تصل إليه.

 نصحني بالنوم في الصالون، وعلى أريكة مواجهة للتلفاز، حيث أجلس وأستمع إلى النشرة الاقتصادية وأسعار المواد الأساسية، وخاصة الخضار والفواكه واللحوم. وافقت في أول الأمر، وما إن دخلت في نومي، حتى صَرخت في أذني آلاف صيصان الدجاج تطالبني بأن أسقيها ماءً. كانت عطشى، أفقت من فوري، لمت نفسي على إهمالي  وعدم ترك سواقي المياه  المعدنية ممتلئة بالماء ليشرب منها الصيصان في مدجنتنا، وعاتبت نفسي بشدّة أكبر حين انتبهت أنني قد أطفأت مفاتيح اللدات أيضا في المستودع الرئيسي للمدجنة وعزوت عطش الصيصان إلى خوفهم من وحشة انقطاع الكهرباء والعتم المطبق. متأخرة ومرغمة، أيقنت أنني أعيش كابوساً جديداً، وأعدت إلقاء الوسادة أرضاً، لكن رميتي هذه المرّة كانت أبعد بكثير، حتى وصلت الوسادة  إلى باب الحمام.

هرب مني نومي للمرّة الثانية اليوم، قرّرت الاستيقاظ رغم أنّ الوقت يشير إلى الثالثة صباحاً، قلت سأعد فنجاناً من القهوة كي أروق وتهدأ أعصابي. لا قهوة في العلبة الخاوية! كدت أصرخ في وجه زوجي وأوقظه من نومه الهش، والذي بات مضطرباً بعد سطو الحرب على وسادتي، لكني تذكرت، وفي الوقت المناسب، أنني أنا من رفض شراء أوقية القهوة لأنّ سعرها صار عشرة آلاف ليرة! كنت أعاند رغبتي لشرب القهوة حينها، مدّعية أنني قادرة على هجر القهوة كما هجرت عدة أشياء رغماً عني لعجزي عن شرائها. للحظة، شعرت بتفاهة قراراتنا اللحظية والمؤقتة، والتي سرعان ما تنقضي مع رضوخ أكبر للسعر الجديد، حتى أصل حدود الندم بأنّي قد أخرت شراء أوقية القهوة بالأمس لأدفع ألف ليرة إضافية اليوم مقابل سعرها الجديد، والذي صار أحد عشر ألفا للأوقية الواحدة، إنه ندم العجز وصحوة المفلسين.

أخرت شراء أوقية القهوة بالأمس لأدفع ألف ليرة إضافية اليوم مقابل سعرها الجديد

للمرة الأولى أشكر كوابيسي العنيدة، خير عظيم أنّي لم أجد قهوة في علبتها، سأجبر نفسي على النوم نكاية بالحرب بعد أن رميتها على باب الحمام.

 يداعب الوسن جفوني، يبدو أنّي أنزلق إلى نوم عميق وهادئ، لقد أجدت كثيراً عملية معاقبة الحرب ورميها بعيداً، صوت ارتطام وصراخ ينتشلني بعنف من ضفة النوم، هل عادت الحرب، أميّز صوت زوجي يشتم ويربد ويرعد، وفي صوته ألم كبير! قرّر دخول الحمام فتعثر بالوسادة، سأقول له عندما تخف آلامه “عليك الاعتراف بحضور الحرب”، لكني هرعت إليه سريعاً، لامني بشدّة، كان مرعوباً أكثر منه متألماً، ساعدته لدخول الحمام، ومن ثم الاتكاء على الأريكة حيث قرّرت النوم. طلب قهوة، أجبته بالنفي، نفينا ببداهتنا الطبية وجود كسور أو جروح دامية في جسده، رضوض وغضب واتهامات مبطنة، أكل لفافة لبنة صغيرة ثم تناول حبة مسكن، وغفا. للحظة صرخ طالباً تلك الوسادة ليرفع ساقه المرضوضة عليها، فتحت نافذة الشرفة، رميتها… صوت ارتطام سيارتين ببعضهما، ألصقت تهمة التسبّب بالحادث بالحرب، دخلت غرفة نومي لأحضر وسادة زوجي ليرفع عليها ساقه المرضوضة، كانت مستلقية على الأرض، ساعدته بوضعها تحت ساقه، وفاجأته بتعليق أيقظ حرباً بيننا: “الحرب تسرق وسادتك منك أيضا وتخفي عني ذلك؟؟؟.”.


العربي الجديد


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية