نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، في تقرير لها، جانباً من دراسة إسرائيلية موثقة قام بها المؤرخان بني موريس وبنيامين زئيف كيدار، أشارت إلى أن رئيس حكومة إسرائيل الأول ديفيد بن غوريون كان قد أمر، خلال معارك النكبة في العام 1948، بتنفيذ عملية سرية لتسميم الآبار في القرى والبلدات الفلسطينية، لمنع عودة أصحاب هذه القرى أو الجيوش العربية إليها، وأنه أوعز بإدارتها لوزير الأمن آنذاك موشيه دايان، وقائد قوات البلماح إيغال ألون، والرئيس الإسرائيلي الرابع إفرايم كاتسير، وأخيه أهرون كاتسير وحملت اسم “أرسل خبزك”.
وحسب الوثائق فإن العملية بدأت في شهر نيسان من 1948 أثناء الحرب، قبل شهر ونصف على قيام الدولة. ومع ازدياد الخوف من غزو الجيوش العربية للبلاد. الباحثون شرحوا بأن العملية استهدفت تسميم آبار في قرى عربية مهجورة لمنع العرب من العودة إليها، لكن أيضاً في بلدات يهودية، التي كانت الدولة – القادمة تنوي إخلاءها خوفاً على سلامة السكان من أجل منع العرب من التمركز فيها إذا قاموا باحتلالها. بحث موريس وكيدار نشر تحت عنوان “حرب إسرائيل البيولوجية في 1948” في مجلة “ميديل إيست ستاديز”. و”أرسل لأخيك” كان الاسم السري للعملية.
معظم المادة في القضية هي سرية، لكن عندما بحث موريس في أرشيف الجيش عن ذكر للعملية، حسب اسمها، تفاجأ باكتشاف وثائق كثيرة. موريس كتب في المقال بأن الرقابة كما يبدو لم تكن تعرف معنى الاسم السري. “ابتكاراتنا كثيرة”، قال موريس. “لقد قمنا بحل لغز تطور العملية ومراحلها، اكتشفنا من الذي أعطى التفويض ونظم وقاد العملية، وكيف تم تنفيذها على الأرض في المناطق المختلفة”. حسب أقوال كيدار “الصورة التي لدينا مكتملة أكثر، وهي تعتمد، ضمن امور اخرى، على توثيق للجيش الإسرائيلي”.
وتكشف قراءة الوثائق أن العملية كانت واسعة جداً، وشاركت فيها إضافة إلى بن غوريون شخصيات كبيرة أخرى في قيادة الجيش والدولة. مثلاً، في إحدى الوثائق كتب “هذه العملية سيتم تنفيذها على يد نحشون (الجنود الذين شاركوا في عملية نحشون) في يوم الأحد أو يوم الاثنين. أنا سأنزل في منتصف الأسبوع مع كل المادة”. الكاتب هو موشيه نفتون، الاسم السري لموشيه دايان، والمرسل إليه هو يغئال يدين، رئيس قسم العمليات في الجيش الإسرائيلي الذي عمل فعليًا كرئيس للأركان في جزء من الحرب. وفي برقية أخرى كتب دايان تحت الاسم السري “ماغي”: “لقد بدأت عملية أرسل لأخيك في الواقع. يدين نفسه كتب في برقية بأن “هناك حاجة ملحة لتحديد ضابط خاص لشؤون عملية “أرسل لأخيك”. الموضوع هام جداً ويجب الحفاظ عليه بسرية كبيرة من قبلكم”. وفي برقية أخرى أوضح: “أبقِ في الآبار مادة من نوع أرسل لأخيك”. وفي برقية أخرى كان هناك سؤال “هل توجد مصادقة على استخدام المادة (القصد مادة بيولوجية) في المناطق التي سيتم إخلاؤها؟”.
وبدأت العملية في المحور بين القدس وتل أبيب واتسعت بعد ذلك أيضاً إلى عكا في الشمال وإلى غزة في الجنوب. وحسب الشهادات شملت بعد ذلك، في مرحلة التخطيط أو فعلياً، بلدات أخرى مثل اريحا وبئر السبع وعيلبون في الجليل والقرى العربية بدو وبيت سوريك وبيت محسير قرب القدس وأيضاً الموشاف اليهودي هار طوف، بعد أن تم إخلاء السكان منها. أيضاً العملية شملت أهدافاً خارج إسرائيل مثل القاهرة وبيروت، لكن هذه بقيت على الورق فقط. منظمو العملية أرادوا بواسطتها أيضاً أن يشوشوا على تقدم الجيوش العربية.
وهنا شهادة مهمة عن العملية وجدها موريس في أرشيف كيبوتس نعان، حيث تم الحفاظ على شهادة قدمها في 1988 عضو في الكيبوتس، رجل الآثار شماريا غوتمان، قائد المستعربين في البلماخ وضابط كبير في مخابرات الجيش الإسرائيلي. غوتمان قال بأنه عبر عن رفضه الأخلاقي للعملية وحذر من أن تسميم الآبار يمكن أن يضر ايضاً باليهود. “نحن أيضاً يمكن أن نحتل في الغد هذه المنطقة وأن نشرب هذه المياه، وجيشنا أيضاً سيصاب بالتيفوئيد أو الديزنطاريا”، شهد غوتمان بأنه قال ذلك في الوقت الحقيقي للجنرال يوحنان ريتنار الذي عينه بن غوريون لقيادة العملية.
وشهد غوتمان أيضاً بأنه طلب تسلم أمر خطي، لكن هذا الطلب رفض. ورد عليه ريتنار وقال “لا يمكن إعطاء شيء كهذا طوال حياتي. افهم بنفسك”. وأضاف غوتمان في الشهادة: “سألته، ما هي المادة؟ هل هي سائل أم مسحوق أم شيء آخر”. وأجمل قوله: “لقد كانت عملية استثنائية من ناحية أخلاقية”.
في شهادته أشار غوتمان إلى أن ريتنار أبلغه بإرسال شخصين إلى الحدود مع مصر لتنفيذ العملية في الآبار. وكانا دافيد مزراحي وعزرا حورين (عفغين)، وقد انطلقا في 22 أيار 1948 لتنفيذ هذه المهمة في غزة ولكنه تم إلقاء القبض عليهما وحوكما في محكمة عسكرية في مصر بتهمة نية تسميم الآبار من أجل المس بالجيش المصري الذي كان في طريقه إلى البلاد، وتم إعدامهما.
شهادة أخرى لتنفيذ العملية في الخارج وجدها الباحثان في مقابلة أجريت مع السفير السابق آشر بن نتان من قبل المؤرخ نير مان في 2008. في صيف 1948 كان بن نتان يعيش في باريس بحكم وظيفته الاستخبارية العملية. هناك، حسب قوله، التقى برجل المخابرات بنيامين غبلي، وأعطاه “كبسولة لتسميم آبار المياه في القاهرة”، لكن الخطة تم إلغاؤها. “الكبسولة بقيت معي، وأخيراً قمت برميها في مياه المجاري”، قال بن نتان. الدليل على ذلك وجده موريس وكيدار في أرشيف الجيش الاسرائيلي في وثيقة بتاريخ أيلول 1948، فيها كتب يدين: “رجاء، اتصل في أقرب وقت… بخصوص تنفيذ أرسل لأخيك في الخارج”.
من الوثائق التي لدى الباحثين يتبين أنه على رأس الهرم يقف بن غوريون، وتحته كان يقف يدين الذي أشرف على العملية من الناحية العسكرية، وريتنار كان القائد الفعلي لها. رجل الميدان الكبير في هذه المجموعة كان في البداية دايان، الذي أصبح بعد ذلك وزيراً للدفاع ورئيسا للأركان. ديان حسب الوثائق عمل كساعٍ، حيث نقل الجراثيم من سلاح العلوم إلى نقاط مختلفة في أرجاء البلاد. أيضاً دافيد شئلتئيل، قائد لواء عصيوني في القدس، كان مشاركاً في العملية. بعد ذلك انضم رجل المخابرات عزرا هيلمر (عومر). وبقيت هوية شخص آخر شارك في العملية مجهولة، في البرقيات كان اسمه مزراحي.
الذين نفذوا العمل الأسود لتسميم الآبار في بداية الطريق كانوا جنوداً عاديين، من الكتيبة الرابعة في لواء هرئيل. ولكن بعد ذلك انتقل هذا الدور الى أعضاء القسم العربي في البلماخ، “المستعربون”، وتخصصوا في أعمال تخريب واغتيالات “في مناطق العدو”.
في الجانب العلمي، شارك في إعداد السم، أعضاء حماد بـ(سلاح العلوم البيولوجية)، وهو قسم في سلاح العلوم انشغل بالحرب البيولوجية. وقد ترأسه اليكس كينان الذي بعد ذلك أصبح مؤسس المعهد البيولوجي في نستسيونا. وقد أشرف على هذه المهمة العلمية الأخوان كتسلسكي (كتسير): البيوفيزيائي افرايم كتسير، القائد الأول لسلاح العلوم، الذي بعد ذلك فاز بجائزة إسرائيل، وكان الرئيس الرابع للدولة. وشقيقه البكر العالم أهارون كتسير، رجل معهد وايزمن، الذي قتل في 1972 في العملية التي وقعت في مطار اللد. “في العملية شارك أيضًا عدد من المساعدين الذين أصبحوا بعد ذلك بروفيسورات في سلك الأكاديميا”، قال موريس.
العملية ذكرتنا بخطة مجموعة “المنتقمين” برئاسة آبا كوبنر، التي أرادت بعد الحرب العالمية الثانية تسميم مصادر المياه والغذاء في ألمانيا من أجل التسبب بالقتل الجماعي. ايضًا في هذه العملية شارك الأخوان كتسير اللذان وفرا السم لكوبنر. ولكن في نهاية المطاف قام هو نفسه برميه في البحر قبل اعتقاله من قبل البريطانيين.
موريس وكيدار يعتقدان أن القصد من عملية الجيش الاسرائيلي لم يكن التسبب بالقتل الجماعي للعرب، بل التشويش على نشاطاتهم في الحرب. في نهاية المطاف العملية لم تغيّر وجه الحرب. وحسب تقارير مختلفة من مصادر عربية فإن بضع عشرات من العرب أصيبوا بالأمراض، لا سيما في عكا. العملية أثارت انتقاداً لاذعاً داخل المنظومة، سواء في الجيش أو في قيادة اليشوف، ضمن أمور أخرى، بسبب أنها مخالفة لميثاق جنيف من العام 1925 الذي يمنع استخدام “الحرب الجرثومية”.
وعلى الرغم من أن الكشف عن الوثائق التي تدلل على العملية وعلى المشاركين فيها فإن أمر تنفيذ العملية لم يتم كشفه حتى الآن، وأيضاً المعلومات عن شراء أو إنتاج السلاح البيولوجي. بعض الوثائق في أرشيف حرب الاستقلال ما زالت سرية، والتقدير هو أنه لن يتم قريباً كشف تفاصيل رسمية أخرى عنها.