بعد سنوات من الإعلان عن إقفاله، ها هو طريق غرب البلقان يعود للواجهة من جديد، مع ارتفاع في أعداد التقارير التي تتحدث عن ازدياد نسبة المهاجرين الذين عبروه أو حاولوا عبوره خلال 2022. بعض الدول المحاذية لذلك الطريق اتخذت مواقف صارمة ضد المهاجرين، كالمجر على سبيل المثال، واعتمدت وسائل وإجراءات للحد من تدفقاتهم، لكنهم مع ذلك استمروا بالقدوم. فما سبب عودة طريق البلقان للرواج بين أوساط المهاجرين، وهل فعلا توقفت الهجرة عبره خلال السنوات الماضية؟
منذ اندلاع أزمة الهجرة في 2015، تشكلت طرق ومسارات عدة سلكها المهاجرون للوصول إلى دول غرب أوروبا، أو دول الاتحاد، هربا من الحروب والفقر والأزمات الاقتصادية التي عصفت ببلدانهم. طرق الهجرة تنوعت وفقا لجنسيات المهاجرين الذين يعبرونها، لكنها بالإجمال حافظت على مسالكها المعتادة وإن خف استخدامها أو كثر وفقا للحاجة.
من الطرق الأساسية التي شاع استخدامها كانت طريق غرب البلقان. المنطقة التي شهدت في تاريخها الحديث عددا من الأزمات السياسية التي شكلت وجهها الحالي وكرست انقسامات تعتبر مادة دسمة لإعادة تأجيج نيران الحروب هناك. لكن مع أزمة الهجرة، باتت دول تلك الطريق شبه موحدة حول كيفية التعاطي مع تلك الأزمة وتدفقات المهاجرين العابرين لأراضيها.
ارتفاع بنسبة ثلاثة أضعاف مقارنة بـ2021
مع كل ما سبق، والإجراءات كافة التي تم اتباعها لإحكام إغلاق تلك الطريق، لم تتوقف تدفقات المهاجرين على تلك الدول. وخلال السنوات الثلاث الماضية، عادت أعداد المهاجرين القاصدين تلك الطريق إلى الارتفاع (وإن لم يكن ممكنا مقارنتها بمستويات عام 2015). وقد سجل المهاجرون الأفغان النسب الأعلى خاصة بعد التوترات التي سبقت ولحقت انسحاب الأميركيين من بلادهم وما ترتب عليه من استيلاء حركة طالبان على السلطة.
وكالة حماية الحدود الأوروبية “فرونتكس” أوردت في تقرير صادر عنها في تموز/يوليو الماضي حول رصد طرق الهجرة إلى دول الاتحاد ونسب المهاجرين الذين يعبرون كل منها، أن طريق غرب البلقان استحوذ على الزيادة الأكبر في نسب المهاجرين العابرين في 2022. الوكالة قالت إنه خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، عبر أكثر من 55 ألفا تلك الطريق، أي ما يعادل زيادة بنسبة ثلاثة أضعاف مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وقدّرت الوكالة في منتصف آب/أغسطس الجاري أن “هذا هو حاليا أكثر طرق الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي نشاطا”.
أما بالنسبة للجنسيات التي تعبر تلك الطريق، أوضحت الوكالة أن معظمهم يأتون من سوريا وأفغانستان ، وهذا قد يعتبر بديهيا لقرب تلك الدول من منطقة البلقان.
عنصر آخر يجب أخذه بعين الاعتبار هو تشديد الاتحاد الأوروبي لرقابته على طرق التهريب الأخرى، خاصة في المتوسط، الأمر الذي دفع بالمهاجرين للبحث عن طرق بديلة، ولم لا، إعادة استكشاف طرق كانت مستخدمة ومجربة في السابق.
أمر آخر وهو تواجد أعداد كبيرة من المهاجرين في تلك الدول، ممن تقطعت بهم السبل ووجدوا أنفسهم عالقين في البوسنة مثلا أو صربيا أو مقدونيا. جزء كبير من هؤلاء لم يتوقف عن محاولة عبور الحدود، ومنهم من نجح أخيرا في مسعاه.
إغلاق الحدود وتشديد الرقابة وتعنيف المهاجرين
في 2016، وعقب توقيع الاتحاد الأوروبي اتفاق الهجرة مع تركيا، بدأت الدول الواقعة على تلك الطريق (صربيا، البوسنة والهرسك، كوسوفو، كرواتيا، مقدونيا، الجبل الأسود…) بإغلاق حدودها تباعا بوجه المهاجرين. الكثير من الحواجز والإجراءات تم اتباعها لثني من يحاولون العبور من هناك عن إكمال طريقهم. أسلاك شائكة وجدران وسياجات، فضلا عن تعزيز أعداد شرطة الحدود والاستعانة بالجيش في بعض الحالات لسد الثغرات.
بعض الدول لجأت إلى استخدام العنف المفرط ضد من ينجحون بعبور حواجزها، كالمجر وصربيا على سبيل المثال، حيث تم تسجيل استخدام للعنف بحق المهاجرين بشكل غير مسبوق. شهادات جمّعت على مدار السنوات الماضية تحدثت عن ضرب مبرح ومصادرة للممتلكات وحتى استخدام كلاب حراسة شرسة لمهاجمة المهاجرين.
منظمات غير حكومية نشرت تقارير عدة حول الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون على حدود بعض تلك الدول. ففي المجر على سبيل المثال، وبعيدا عن الصورة التي عكستها البلاد فيما يتعلق باستقبال وإيواء اللاجئين الأوكرانيين، أثبتت التقارير تعرض المهاجرين السوريين والأفغان والعراقيين وغيرهم من الفارين من العنف للعنف. الأحداث نفسها تم توثيقها على الحدود الصربية.
المجر رأس حربة خطاب مناهضة الهجرة
لجنة هلسنكي المجرية، وهي منظمة حقوقية، تحدثت في أحد تقاريرها عن اتباع حرس الحدود المجري لأساليب عنيفة ضد المهاجرين أدت إلى إصابات في الرأس وكسور في الأطراف، فضلا عن استخدام الهراوات والكلاب، وهذه ممارسات “كلها شائعة إلى حد ما” أثناء عمليات الصد.
تبنت المجر خطا مناهضا للهجرة، يعد الأكثر شراسة مقارنة بالدول المحيطة بها. رئيس الوزراء فيكتور أوربان، وصف المهاجرين وطالبي اللجوء بأكثر من مناسبة بأنهم “غزاة”، وبأن سياسة بلاده تساهم بالحفاظ على هوية أوروبا “المسيحية” ضد الزحف الإسلامي.
في أواخر عام 2015، أكملت سياجًا من الأسلاك الشائكة على طول حدودها مع صربيا. وفي عام 2016، باتت الدولة الوحيدة في الاتحاد التي تتبنى قانونا يشرّع عمليات الإعادة (القسرية)، ويقونن آليات دفع طالبي اللجوء عبر الحدود دون العودة إلى الإجراءات القانونية الأوروبية.
يقبع في شمال صربيا حاليا آلاف الأشخاص من دول عربية وآسيوية، يأملون بالحصول على فرصة لعبور الحدود مع المجر ودخول الاتحاد الأوروبي. لكن السياج الحدودي المزدوج، الذي يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار، يمثل عقبة حقيقية في وجههم.
لكن مع ذلك، ومن دون أي تفسيرات منطقية يمكنها شرح الأسباب، عادت أعداد المهاجرين في تلك المنطقة، خاصة شمال صربيا، للارتفاع مجددا، الأمر الذي دفع أوربان مؤخرا إلى الإعلان عن نيته تمديد السياج الحدودي وإضافة أربعة آلاف عنصر جديد في عداد جهاز حرس الحدود.
ما هي وجهة المهاجرين بعد البلقان؟
تتجه أعداد كبيرة من المهاجرين، ممن يتمكنون من عبر الحدود المجرية إلى النمسا، إذ يستحيل عليهم طلب اللجوء في المجر.
وفي هذا الإطار، أعلنت النمسا عن ارتفاع حاد في طلبات اللجوء لديها منذ بداية العام الحالي، حيث استقبلت سلطات الهجرة واللجوء لديها نحو 42 ألف مهاجر، وهو مستوى لم تشهده فيينا منذ ذروة أزمة اللجوء في العام 2015. وزير الداخلية النمساوي المحافظ غيرهارد كارنر حذر الأسبوع الماضي من تخطي بلاده قدرتها على استقبال أعداد إضافية من طالبي اللجوء.
لكن الشهرة الأكبر التي حظي بها طريق البلقان كانت أنه بوابة الحالمين بالوصول إلى ألمانيا. مشات الآلاف تمكنوا من عبور تلك الطريق في 2015 باتجاه الاقتصاد الأول في الاتحاد الأوروبي. وإن تدنت أعداد المهاجرين على تلك الطريق، إلا أنهم مازالوا، بنسب كبيرة، يعتبرون ألمانيا وجهتهم النهائية.
من ضمن هؤلاء المهاجرين من يريدون التوجه إلى فرنسا أيضا، وإن بنسب أخف بكثير من ألمانيا. فمؤخرا، بدأت أعداد المهاجرين القادمين من دول المغرب العربي بالارتفاع في مناطق شمال صربيا.
في تصريح سابق له، قال رمضان بن عمر الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن طريق البلقان بدأت تشهد رواجا في أوساط الساعين للهجرة إلى أوروبا، “شهدت الطريق زخما منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بعد وصول 775 مهاجرا غير نظامي إلى صربيا خلال شهر وأكثر من 3000 خلال عام، دون احتساب من تمكنوا من دخول صربيا خلسة دون اعتراضهم من السلطات”.