خلص تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز أن الرصاصة التي قتلت الصحافية الفلسطينية – الأمريكية انطلقت من موقع تقريبي لسيارة عسكرية إسرائيلية.
اعتقد الصحافيون أنهم بمأمن.
وعلى بعد عدد من الشوارع توقفت معركة بين الجنود الإسرائيليين ورجال فلسطينيين. وعلى أمل مقابلة شهود، نزلت مجموعة الصحافيين نحو الشارع والقافلة العسكرية الإسرائيلية. وكان من بينهم أبو عاقلة، المراسلة الفلسطينية- الأمريكية المخضرمة. و”فجأة انطلقت ست رصاصات باتجاههم وتفرقوا بحثا عن غطاء وقرفصت أبو عاقلة بجانب شجرة خروب. وانطلقت سبع رصاصات أخرى”.
“هل أصيب أحد؟” صاح أحد المارة ، سليم عوض ، قبل أن يرى السيدة أبو شيرين أبو عاقلة ملقاة على وجهها على الأرض. “شيرين! شيرين! ” صاح ، بعد أن تعرف على الصحفية المعروفة. “يا رجل يا شيرين!”
وقال مسؤولون فلسطينيون إن السيدة أبو عقلة قُتلت عمدا في وقت مبكر من يوم 11 مايو في مدينة جنين بالضفة الغربية على يد جندي إسرائيلي. وقال مسؤولون إسرائيليون إن جنديا ربما أطلق عليها الرصاص بالخطأ لكنهم أشاروا أيضا إلى أنها ربما قتلت على يد مسلح فلسطيني. خلص التحقيق الأولي للجيش الإسرائيلي إلى أنه “من غير الممكن تحديد مصدر إطلاق النار بشكل لا لبس فيه”.
ووجد تحقيق استمر لمدة شهر أجرته صحيفة نيويورك تايمز أن الرصاصة التي قتلت شيرين أبو عاقلة أطلقت من الموقع التقريبي للقافلة العسكرية الإسرائيلية ، على الأرجح من قبل جندي من وحدة النخبة.
وراجعت الصحيفة الأدلة، وكشفت أنه لم يكن هناك أي مسلح فلسطيني قرب المكان الذي قتلت فيه. بشكل يناقض المزاعم الإسرائيلية بأن الجندي الذي قد يكون قتلها خطأ لأنه كان يصوب باتجاه مسلح فلسطيني.
وكشف تحقيق “نيويورك تايمز” عن إطلاق 16 رصاصة من موقع القافلة العسكرية الإسرائيلية، وخلافا للمزاعم الإسرائيلية من أن عدد الرصاصات المنطلقة باتجاه الصحافيين هو خمسة.
ولم تعثر الصحيفة على أدلة تظهر أن مطلق النار كان يعرف أبو عاقلة واستهدفها شخصيا. ولم تستطع الصحيفة تحديد فيما إن كان مطلق الرصاص قد شاهد أنها وزملاءها يرتدون السترات الواقية والتي كتبت عليها كلمة “PRESS”.
5 صباحًا ، 11 أيار/ مايو
وكانت المراسلة التلفزيونية الفلسطينية- الأمريكية لقناة الجزيرة القطرية ، أبو عاقلة، 51 عاما اسما معروفا في الشرق الأوسط. وغطت لأكثر من عقدين النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، واليوم أصبحت آخر ضحاياه.
وأثار اغتيالها غضبا عالميا وأصبحت بالنسبة للفلسطينيين مثالا يجسد المخاطر والإحباطات الناجمة عن الحياة في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي. فمن النادر ما تجذب وفاة الفلسطينيين الاهتمام والتمحيص الدولي، ولا تتم إدانة الجنود الذين يقتلونهم إلا في النادر. وصلت أبو عاقلة إلى جنين في ذلك اليوم لتغطية المداهمات العسكرية الإسرائيلية المستمرة للمدينة.
وفي الأسابيع التي قادت لذلك اليوم، أدت موجة من الهجمات الفلسطينية لمقتل 19 إسرائيليا وأجنبيا، وجاء بعض المهاجمين من منطقة جنين.
مع بزوغ شمس 11 أيار/ مايو، كانت مداهمة تجري من القوات الإسرائيلية.
وفي حوالي الساعة الخامسة صباحا، شاهدت فاطمة الحصري أخبار المداهمة العسكرية على وسائل التواصل الاجتماعي، وخشيت أن يكون الجيش قد جاء لاعتقال ولديها، ذلك أن ابنا ثالثا لها قتل في آذار/ مارس في مواجهة مسلحة مع الجيش بجنين. وأصبح الآن ابناها من المطلوبين بتهمة النشاط العسكري.
ومع اقتراب الجنود إلى البيت في منطقة مزدحمة يسكنها أحفاد الذين فروا من بيوتهم عام 1948، أيقظت فاطمة ابنيها وطلبت منهما الهرب. وبعد لحظات وصل الجنود إلى باب البيت، ورموا متفجرات لفتحه وهاجموا البيت، بحسب أفراد العائلة. وطلب الجنود معرفة مكان الأخوين، لكن الأبوين رفضا إخبارهم.
واقتحموا بناية ملحقة اشتبهوا أن الأخوين فيها. ومن ثم صعدوا إلى الطابق الثاني ومن نافذة تبادلوا إطلاق النار مع مسلحين فلسطينيين في جنوب البناية. وعلى بعد 3 أميال من الشمال، كانت قافلة عسكرية إسرائيلية تدخل الضفة الغربية وفي مقدمتها عربة ديفيد “أم دي تي” المصفحة.
5:45 صباحًا
في حوالي الساعة 5:45 أيقظت مكالمة من المنتج في الجزيرة علي السمودي، 54 عاما، أبو عاقلة من نومها في غرفة بفندق بنواحي جنين وطلب منها الذهاب وبسرعة إلى مكان المداهمة. والتقت مع 3 زملاء من الجزيرة في موقف السيارات ولبسوا جميعا الستر الزرقاء بعلامة (PRESS) ثم انطلقوا بالسيارة قريبا من حي الحصري.
وكان السمودي هناك بالانتظار مع مجاهد السعدي، 35 عاما وشذا حنايشة، 29 عاما. ومع وصول الصحفيين، وصلت القافلة التي أرسلت لإخراج الجنود المشاركين في المداهمة إلى شارع المخيم الجديد. وبدا وكأن المواجهة خفت، حيث حاول الصحفيون المشي باتجاه شارع المخيم الجديد مرورا بالقافلة العسكرية ونحو بيت الحصري، حسبما قال الصحفيون الناجون.
لكنهم بقوا فترة قصيرة لفحص ردة فعل الجنود قبل التحرك. فلو أراد الجنود منهم عدم الاقتراب لقاموا بتحذيرهم من خلال رصاصات في الهواء. وكان عواد، 27 عاما يراقب المداهمة على منصات التواصل الاجتماعي وخرج من البيت لمشاهدتها بنفسه في الساعة 6:24 صباحا وبدأ بالبث الحي على “تيك توك”.
ويظهر فيديو عواد أن الأجواء كانت هادئة. وبدأت أبو عاقلة وزملاؤها بالنزول باتجاه شارع المخيم الجديد ونحو بيت الحصري، حيث خفت أصوات إطلاق النار. وكانت الساعة 6:31 منذ آخر طلقة. ثم سمع صوت إطلاق النار بعد ثوان قليلة، وسجلت كاميرا عواد أصوات ست رصاصات.
وصرخ السمودي: “يطلقون النار علينا” ورجع حيث شعر بانفجار رصاصة في ظهره واخترقت سترته الواقية وتمزقت في كتفه الأيسر.
وصرخت أبو عاقلة: “أصيب علي، أصيب علي”، وكانت المرة الأخيرة التي سيسمع صوتها. وقفز السعدي، واحد من الصحفيين غير المتفرغين إلى بيت لم يكتمل بعد، واحتمت حنايشة بجدار خلف شجرة الخروب.
وجلست أبو عاقلة القرفصاء على الجانب الآخر من الشجرة، وكان ظهرها للقافلة الإسرائيلية، كما يظهر فيديو التقطه مصور الطاقم، مجدي بنورة. ثم انطلقت سبع رصاصات أخرى.
وقالت السلطة الوطنية التي تدير بعض الأجزاء في الضفة الغربية إن التشريح أظهر أن واحدة من هذه الطلقات دخلت الجزء الخلفي من جمجمة أبو عاقلة، ومرت من جبهتها وضربت داخل خوذتها قبل أن ترتد مرة أخرى في رأسها.
وإلى جانبها كانت حنايشة التي مدت يدها إلى جسد أبو عاقلة المتراخي، كما تظهر لقطات الفيديو. لكن الرصاص لم يتوقف مما أجبر حنايشة على البقاء في مكانها خلف الشجرة. وقالت “أي شخص أطلق النار علينا شاهدنا من قبل” و”اعتقدنا أننا بمأمن”.
التحقيقات
في 26 أيار/ مايو قالت السلطة الوطنية إن نتائج تشريح الجثة وفحص الرصاصة كشفت عن مقتل أبو عاقلة برصاصة خارقة للدروع. واتهم المسؤولون الفلسطينيون الإسرائيليين بقتلها عمدا، مشيرين إلى قتلها برصاصة في الرأس وهي ترتدي السترة التي تحدد هويتها كصحفية. وأصبحت الرصاصة مركز التحقيق الفلسطيني، وتحقيق آخر منفصل أجراه الإسرائيليون.
واقترح هؤلاء تحقيقا مشتركا على الفلسطينيين وفحص للرصاصة بإشراف دولي ومن أجل مناسبتها وبشكل قاطع للبندقية التي أطلقتها. إلا أن الفلسطينيين رفضوا هذا المقترح، وقالوا إنه لا يمكن الثقة بإسرائيل لكي تجري التحقيق.
ولم يكشف الإسرائيليون عن نتائج تحقيقهم، وقالوا يوم الجمعة إنهم أضافوا مسؤولين بارزين لفريقهم. ورفض الجيش الإسرائيلي في تصريحات سابقة الاتهامات بأنه اغتال أبو عاقلة عمدا ووصف التأكيدات بأنها “أكاذيب صارخة”.
وجاء في بيان: “لم يتعرف جنود جيش الدفاع الإسرائيلي على الصحافيين طوال النشاط وبالتأكيد لم يطلق النار عمدا على الصحافيين”. و”يرفض جيش الدفاع الإسرائيلي المزاعم القائمة على تحقيقات غير كاملة وشهادات متحيزة وسيواصل إجراء تحقيق مسؤول في الحادث”.
وكشف التحقيق الأولي أن جنديا لم تحدد هويته من وحدة النخبة دفدفان، أطلق خمس رصاصات من فتحة عربته باتجاه أبو عاقلة، حيث ظن أنه كان يطلق النار على مسلح قرب الصحافيين.
وقام تحقيق “نيويورك تايمز” بإعادة بناء اللحظات التي قادت إلى اغتيال أبو عاقلة، واستخدم لقطات فيديو التقطها مارة وصحفيون وكاميرات رقابة ومقابلات وسبعة شهود عيان وكذا الرواية الإسرائيلية وتحليل صوتي قام به خبراء وأربع زيارات قام بها مراسلو الصحيفة.
وقالت إن الجنود الإسرائيليين كانوا موجودين في منطقتين (جيبين) إلى جانب مسلحين فلسطينيين انتشروا في نقاط عدة بالحي في الوقت الذي قتلت فيه أبو عاقلة، وكان هناك تبادل إطلاق النار بينهم. لكن لم يظهر أي شريط فيديو التقط للحظة القاتلة وقبل ثوان من اغتيالها وأظهر مسلحين فلسطينيين قريبا من مكانها.
وقال سبعة من الصحفيين والمارة كانوا في مشهد الحادث إنه لم يكن هناك مسلحون بالمنطقة، ولم يقدم المسؤولون الإسرائيليون أي دليل عن وجود أحد.
وطلبت صحيفة “نيويورك تايمز” من روبرت ماهر خبير أصوات الرصاص بجامعة ولاية مونتانا وستيف بيك، خبير الأصوات السابق بمكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) تحليل الأصوات التي تسمع في شريط فيديو عواد والمصور بنورة.
ومن خلال قياس الميكرو ثانية بين خروج كل رصاصة من مخزن البندقية ومرورها عبر ميكرفون الكاميرا، استطاعا حساب المسافة بين البندقية والميكرفون. وأخذا بعين الاعتبار درجة حرارة الهواء في ذلك الصباح ونوع الرصاص الذي يستخدمه الإسرائيليون والفلسطينيون.
وتوصل ماهر إلى أن الطلقات أطلقت من مسافة 181 ياردة من المكان الذي التقطت فيه صور الفيديو وحتى مسافة 211 ياردة.
وحلل بيك وبشكل مستقل المسافة وقال إنها ما بين 171-196 ياردة. كما تظهر كاميرا الفيديو ولقطات الفيديو للمارة قبل عملية إطلاق النار أن أول عربة في القافلة العسكرية الإسرائيلية كانت تقف على بعد 200 ياردة تقريبا من المكان الذي كانت تقف فيه أبو عاقلة.
وتقول الصحيفة إن الأدلة التي جمعتها لم تربط المسلحين الفلسطينيين بالمنطقة بعملية إطلاق النار.
وفي فيديو واحد ظهر رجال مسلحون في المسافة المقدرة لإطلاق النار، ولكن لم يكن لديهم المنظور المباشر وحجبت عدة جدران مدى نظرهم للصحافيين. وفي فيديو ثان أظهر مسلحين فلسطينيين لديهم منظور واضح لأبو عاقلة لكنهم كانوا بعيدين 330 ياردة عن مكان أبو عاقلة وهي مسافة أبعد من المدى الذي قدره الخبراء.
وفي شريط فيديو ثالث صوره مسلح فلسطيني ووزعته الحكومة الإسرائيلية، يظهر مسلحان بزقاق يؤدي إلى زاوية شارع يمكن أن يعطيهما رؤية باتجاه مكان أبو عاقلة، لكن الزاوية كانت تبعد حوالي 300 ياردة عن الصحافية، وهي مسافة خارج تقديرات الخبراء.
وبشكل حاسم أظهر التحليل الصوتي أن الـ 16 رصاصة أطلقت من المكان التقريبي لمكان الحافلة الإسرائيلية. وتفترض حسابات الخبراء أن المقذوف كان رصاصة 5.66×45 ميلمتر، وهو نوع الرصاص المستخدم من قبل الجانبين. وقالوا إن التباين لنطاق المسافات هو حساب التباين بمعدل سرعة كل رصاصة.
وتؤكد الصحيفة أن تحقيقات “بيلنغكات” و”أسوشيتدبرس” و”واشنطن بوست” و”سي أن أن” توصلت إلى أن الرصاصة القاتلة لأبو عاقلة جاءت من الجيش الإسرائيلي. وكانت الرصاصات الثلاث الأخيرة قد أطلقت بعد دقيقة من القتل.
وقال شريف العزب، المواطن في جنين إنه كان مع صديق له بسيارته قرب مكان الحادث عندما سمع صوت إطلاق الرصاص، وحاول عبور الشارع باتجاه أبو عاقلة لكنه تراجع عندما شاهد ثلاثة جنود يرفعون بنادقهم.
وركض العزب، 20 عاما قاطعا الطريق وخلف جدار حيث حاولت أبو عاقلة الاحتماء به. وتسلق فوق الجدار وجثم قرب أبو عاقلة مدة دقيقة بعد اغتيالها في الموجة الثانية من الطلقات، وحاول رفعها، لكن رصاصة مرت بجانبه وأجبرته على الاحتماء بالجدار. ورافق حنايشة بعيدا عن خط إطلاق النار قبل أن يعود إلى أبو عاقلة حيث شبك ذراعيه بذراعي أبو عاقلة وحاول رفعها، حيث جرها إلى سيارة صديقه، ومرت رصاصتان وهو يحاول جرها.
وفي الوقت الذي بدأ فيه الصحفيون يتحركون باتجاه الشارع انطلقت 16 رصاصة، واحدة ضربت السمودي في كتفه وثانية قتلت أبو عاقلة وثالثة أصابت شجرة الخروب التي تحولت إلى تذكار مزين بالأعلام الفلسطينية وتزورها العائلات لأداء التحية للصحافية وبعضها تصور بناتها وهن يقلدن الصحافية وخاتمة تقاريرها “شيرين أبو عاقلة، الجزيرة من جنين”، فلسطين.