صوفيا: حكايات جديدة لرفيق شامي …قراءة: حسين جرود

حسين جرود
كاتب سوري

بعد أن تخلت عن كريم (الذي يحبها) وتزوجت صائغًا غنيًا، تساعد صوفيا كريم على التخفي من أنظار الشرطة، وإثبات براءته من جريمة قتل أخته الهاربة، وأيضًا تعود بعد عقود طويلة لتطلب منه إنقاذ حياة ابنها.

«لماذا لا توجد روايات بوليسية عربية جيدة؟»:

سواءً عندما يحاول القارئ منع ابن صوفيا (سلمان) من دخول سوريا، ويتمنى لو تختفي سوريا من الوجود أو يحدث أي شيء يمنع هذه الزيارة المتوقعة نتائجها، أو على الأقل يتمنى أن يكون السرد رحيمًا وتأتي العودة على صورة حلم (أو أحلام) كما يحدث في البداية، أو عندما يحاول إخراج سلمان من البلد بعد أن أجاب ابن عمه (ضابط المخابرات) سؤال إحدى الحاضرات في استقبال سلمان عن الروايات البوليسية، وحوّل زيارة سلمان إلى مطاردة حقيقية.

«الهروب أمل… بداية جديدة وحكمة»:

سلمان الشاب الذي يبدأ صراعًا مع المجتمع والسلطة ينتهي بهروبه من بلده بعد انهيار تنظيمه المسلح، ليعيش في المنفى أربعين عامًا. سلمان الهارب من المدينة حتى أنه يُنظّر بأن الهروب جزء من الثقافة العربية، فالتقويم العربي يبدأ بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، التي أنقذت حياته ورسالته، وفشلت كل محاولات إعادة التقويم إلى تاريخ ميلاد الرسول، هو سلمان نفسه الذي يثق بهؤلاء الناس؛ فيعود إليهم ليرى البلاد بعيون جديدة، كأنها ملصقات لشخصيات كرتونية، ثم يمر بهم في محطات هروبه الجديد لنراهم ويراهم هذه المرة بعدسات مكبرة.

«تماثيل شمع، والغرفة التي يجلسون فيها… قاعة انتظار في مطار»: 

ربما كانت الهواتف النقالة والتلفزيون الذي لا يُطفأ عدوه الأول، فهي أول ما لاحظه على من جاؤوا لاستقباله، فهم يبالغون في كل شيء… يتحدثون عن أشياء كثيرة لإخفاء ما لا يستطيعون قوله، والهواتف لا تتوقف عن الرنين والمكالمات تأتي طوال الوقت، وترى الناس ينهضون ويذرعون الغرف وهم يتكلمون عبرها بصوت مرتفع كأنه لا أحد أمامهم، إلى تفاصيل أخرى لا تنتهي بالأعراس التي تُرتدى فيها البدلات السوداء والفساتين الطويلة في تموز القائظ تقليدًا للأفلام، وكذلك الطعام، وأسماء الأطفال، والأوشام… في بلاد فقدت أصالتها وفشلت في إيجاد البديل، فهي تعيش حالة من تفسخ القيم والعادات والتقاليد وتحسب أن ما يخرج من روائح -جراء هذا التفسخ- قيم وعادات جديدة.

كلمة «كاتب» التي كانت تعني «مؤلف» وكلمة «ذو خط جميل» التي تعني خطاط أصبح لها معانٍ مختلفة، والرغبة في جمع مبالغ كبيرة بسرعة دون بذل أي جهد تستحوذ على الجميع اقتداءً بالعشيرة الحاكمة.

يصادف سلمان في رحلة هروبه عددًا من الشخصيات: طارق الذي ترك دراسة المحاماة ليعمل في ورشة والده، ماريا ابنة خالته التي يسافر زوجها إلا السعودية ولا يرسل لها إلا مبالغ صغيرة، وريتا العاهرة التي يحميها ضبّاط كبار، وعادل الثائر القديم الشاذ جنسيًا الحاقد على المجتمع، وهاني الثائر القديم الذي يجمع المتفجرات ويفكر بالانتقام، لتنتهي محطات هروبه مع كريم وعايدة اللذين لحسن الحظ لا يحملان هواتف نقالة، وينزعجان من صوتها.

«الصبر والمرح جملان تعبر بهما كل صحراء»:

كريم العاشق المهجور، والمنبوذ من العشيرة، والمفجوع بزوجته الشابة، يستمر فشله حتى في علاقته مع ابنته، ولكنه كريم نفسه الذي يعيش قصة حبه أخيرًا في سن السبعين عندما يعشق عايدة، ويكتشفان أنهما حتى اليوم لم يحققا أغلى حلمين لديهما، فيعد كريم عايدة أن يعلمها ركوب الدراجة، في حين تعده أن تعلمه العزف على العود.

كريم الذي يقرأ كتابًا عن القرامطة في القرن العاشر، بينما كان يعتني بابنته في الليلة نفسها التي ماتت فيها زوجته، ويفاجأ بالفصل المتعلق بالمساواة بين الرجال والنساء، هو كريم نفسه الذي يجد أن ابنته أصبحت متشددة وتعيب عليه طريقة حياته.

كريم الهارب أيضًا من أساطير المدينة، يصبح قضيبه أسطورة في النهاية، وتتناقل سيدات الحي أخباره إذ يقلن إنه يدهنه بمرهم هندي كل صباح، ويحمله كأنه هراوة حديدية ليكسر به حبات الجوز.

«دعوهم يحكمون بسلام، وسيتركونكم تعيشون»:

صوفيا التي تبدو للوهلة الأولى امرأة مسالمة لا يهمها سوى رفاهيتها وأمنها، تدافع عن سلمان كلما تجاوز أحد حدوده، فتقف له بالمرصاد وتلقنه درسًا قاسيًا.

صوفيا هي دمشق أو سوريا التي تتابع حياتها الممتعة أو الرتيبة أو الآمنة… كأنها لا تبالي بشيء، ولكنها لا تتخلى عن عشاقها وأبنائها. وبين شجرتَي حور, تشرق الشمس كل عام في 23 حزيران على قبر العاشقين الشهيدين فاطمة وفادي، اللذين ما زالت المدينة تحتفظ بذكراهما، وفي الوقت نفسه، وبعد كل هذه السنوات، تطارد سلمان وتنقذ حياته، وتحارب كريم وعشقه المتجدد دومًا.

«من عاش بوجهين، مات لا وجه له»:

رغم أننا نلمح جثة ميتة لحب مقتول بين كريم وصوفيا في لقاءهما هذا بعد عقود عندما أتت لتطلب مساعدته، فإن كريم وصوفيا في هذا اللقاء -الذي اختصر عمدًا على صفحات الرواية- شخصيات من عالم آخر أصبحت أكبر من همومنا الدنيوية، وتحل مثل هذه المسائل بطرفة عين.  

الطفل الذي اعتقلته المخابرات مع أسرته وأرسلته إلى مستشفى الأمراض العقلية لأنه قال في المدرسة أنه يرغب أن يصبح رئيسًا للجمهورية، هو الطفل نفسه الذي ترسله أسرته إلى جدته في درعا -في كانون الأول 2010- ليداوم في المدرسة هناك.

«للأكاذيب سيقان قصيرة مثل دييغو مارادونا، ولكنها تحرز مثله أهدافًا»:

الأسطورة تعيش زمنًا أطول من الحقيقة، يتزحلق سلمان بأسطورته الخاصة وحنينه إلى جنة طفولته ويقع في الفخ، ليجد أنه شاهد غير مرحب به، فالسلطة السياسية التي أدخلت البلاد في ركود طويل، حولتها إلى مستنقع من الأساطير والأكاذيب، وتغلغلت حتى في أكثر الروابط العائلية قربًا وحميمية، جعلت عودة سياسي منفي إلى سوريا مستحيلة حتى لو تخلى عن السياسة.

تقدّم الرواية عشرات الشخصيات الرجالية والنسائية بتناقضاتها وزلاتها وهفواتها وآمالها وانكساراتها، وتدور أحداثها بين دمشق وبيروت وهايدلبرغ وروما. وفي هذا العرض الموجز، ركزنا فقط على قصة دمشق مع سلمان وكريم وصوفيا.


(رواية: صوفيا أو بداية كل الحكايات، تأليف: رفيق شامي، ترجمة: خالد الجبيلي، دار الجمل، عام 2021، عدد الصفحات: 567)

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية