ميديا بارت: “بيانو” الموت في سجن تدمر

بعد أن نجا من عقوبة الإعدام لصغر سنه ونجا بأعجوبة من أسوأ سجون النظام السوري ، رأى الكاتب محمد برو مئات المعتقلين السياسيين يموتون أمام عينيه. تمكن أخيرًا من إخبار ما يعتقد أنه لا يوصف.

بهذا التمهيد صدر موقع ميديا بارت (Mediapart) الفرنسي مقالا سرد فيه رحلة الكاتب برو، التي بدأت في سجن تدمر بعد شهر من مجزرة قتل فيها نحو ألف معتقل سياسي في يونيو/حزيران 1980، على يد رفعت الأسد الأخ الأصغر لرئيس الجمهورية آنذاك حافظ الأسد، ليشارك مع زملائه السجناء في غسل الجدران المغطاة بلحم البشر وشعرهم، بعد أن أطلقت “سرايا الدفاع عن الثورة”، التي يقودها رفعت، النار والقنابل اليدوية عبر الفتحات فوق الزنازين الضخمة.

وأوضح المقال -الذي وقعه جان بيير بيرين- أن برو، البالغ من العمر الآن 58 عاما، وهو كاتب وصحفي ومدير مركز صدى للبحوث والرأي العام في إسطنبول، تم اعتقاله عام 1980 في حلب مع 7 من رفاقه، بتهمة توزيع مطبوعة للإخوان المسلمين، مع أنه لم يكن عضوا في الجماعة التي ينص القانون رقم 49 الصادر في يوليو/تموز 1980، ولا يزال ساري المفعول، على أن أي شخص ينتمي إليها “يعتبر مجرم حرب ويعاقب بالإعدام”.

رحلة رعب طويلة

يقول برو “حكم عليّ القاضي بالإعدام في غضون ثوانٍ. لم يكن لدي الوقت لفتح فمي” إلا أنه، لحسن الحظ، لم يتجاوز وقتها 17 عاما وبالتالي لا تنطبق عليه هذه العقوبة لأنه قاصر، ولكن أصدقاءه السبعة لم تكن لديهم هذه الفرصة وقد شنقوا.

من هذا السجن الواقع على أبواب الصحراء بدأ برو رحلة طويلة مع الرعب، رأى خلالها الموت والجنون من الزنزانة التي يتقاسمها مع عشرات السجناء، وهي تقع أمام غرفة الإعدام، ليشاهدوا من الثقوب التي أحدثوها بالباب عمليات الشنق الحية التي كانت تحدث كل سبت وأربعاء أسبوعيا، قبل أن تصبح مرة واحدة.

لم تكن المشنقة في تدمر رأسية بل أفقية و”أيام الإعدام يجمع الضحايا الذين تم استدعاؤهم في زاوية، ثم يلقى الضحية على الأرض وتوضع رقبته في حبل، وبعد أن يتحقق القاضي من هوية الجميع، يشد الحبل في حين يثبت 4 حراس جسد المعذب على الأرض، ثم ينتقلون إلى اللاحق، مما يسمح بإعدام أكبر عدد ممكن من المحكوم عليهم في أقصر وقت ممكن، ربما 100 في أقل من نصف ساعة، وقد شبه برو حركة الأجساد وهي تنتصب ثم تسقط وتعلو وتهبط أثناء الإعدام بمفاتيح البيانو.

وخلال السنوات الثماني التي قضاها في تدمر، قبل نقله إلى سجن صيدنايا، بالقرب من دمشق، شاهد برو 70 عملية إعدام أمام عينيه، وسجلت ذاكرته أسماء أكثر القضاة والضباط قسوة، مثل سليمان أتيب، ذلك القاضي الذي طلب من أب اختيار أي من ولديه سيُشنق، ليستسلم الأب أخيرا للابتزاز، ولكن دون أن يتحقق الوعد ليعدم ابناه، ويموت هو بعد ذلك بأيام.

في تدمر يموت الكثير من الناس تحت التعذيب الذي تعقد له 3 جلسات في اليوم وكأنه وجبة طعام، دون احتساب الضرب الذي يقوم به الحراس أثناء النداء مرتين في الأسبوع للاستحمام، يقول برو “يجب على السجناء بعد ذلك الركض عراة تماما في صف واحد لمسافة كيلومتر ونصف الكيلومتر بين حراس يضربونهم”.

وهناك وثق برو بدقة شديدة ما يستخدمه الجلادون، كالهراوات والسلاسل والأسلاك المضفورة والسياط، وسيور بطول متر وعرض سنتيمترين وأحزمة نقل للدبابات، كما أنهم يستخدمون كتلا ضخمة من الإسمنت يسحقون بها صدور السجناء، وكل شيء في تدمر ذريعة للتعذيب، حتى الذهاب إلى مصفف الشعر.

نشوة الدم

وصنف السجين السابق الحراس والمعذبين اجتماعيا، حيث رأى أن الضباط وضباط الصف محترفون، أما الجنود فهم من المجندين، ويتم اختيار العديد منهم خلال الأشهر الأولى من التدريب بداية خدمتهم العسكرية، حيث يتم تحديد أكثرهم خبثا وشراسة، ويخضعون لغسل المخ، وغالبا ما يختارون من بين من قُتل أفراد من عائلاتهم على يد الإخوان، لتكون رغبتهم في الانتقام كبيرة، كما يقول برو.

وينتهي التدريب على هذا الدور “بمعمودية الدم” التي يصب فيها الجلاد كامل غضبه على معتقل محدد لمدة 3 ساعات، وهذا “التدريب في تدمر إلزامي لكل سجان في المستقبل. إنه أمر مرهق حتى بالنسبة للجلاد الذي يسأم بعد 10 أو 15 دقيقة من الضرب، لذلك يشجعه السجانون الآخرون ويصبون عليه الماء، والهدف أن يضرب ضحيته حتى يصل إلى النشوة، وموت من يعذب سيجعله يصل إلى هذه النشوة، ليتم دمجه في مجموعة من الجلادين الآخرين الذين سبقوه، كما يقول السجين السابق.

والحقيقة أن شرور “صناعة التعذيب” هذه لا حدود لها كما يقول برو “ففي كل جلسة يركض السجناء لاختيار معذبيهم من بين العلويين والمسيحيين لا من السنة، لأنهم يخشون أن يكون هؤلاء مراقبين أكثر بسبب انتمائهم الديني، وبالتالي سيكونون أكثر فظاعة معهم” خاصة أن كل عمليات الإعدام يقررها الرئيس شفهيا، ويوقعها وزير دفاعه مصطفى طلاس الواحد تلو الآخر، وقد اشتكى في مذكراته “مرآة حياتي” من أنها قد تصل إلى 150 في الأسبوع.

وقد جمع برو، خلال سنوات الاعتقال، قصصا غير عادية عن الشجاعة والإنسانية، لكنها جميعا تنتهي بشكل سيئ، مثل الرقيب أحمد السباعي الذي كان يظهر للسجناء بعض التعاطف فـ “في الصباح عندما يمر على زنازيننا، كان يقول مرحبا، ويهمس لنا وهو يغلق الباب لعل الله يجد لكم مخرجا من هنا أيها الأولاد” لكن تساهله جعله ينكشف ويتهم بـ “خيانة الوطن” ليأتي العشرات من لواء العقوبات ويمزقونه إربا إربا، فيموت خلال ساعة.

إعدامات تحت الكاميرا

وإذا كانت الغالبية العظمى من معتقلي تدمر من الإخوان المسلمين، فإن فيها أيضا ضباطا عارضوا عائلة الأسد، وقد حدد برو 180 منهم بينهم 22 طيارا مقاتلا، أعدم أحدهم لأنه قال إنه حلم بانقلاب، أما هذا الضابط المسمى عبد الرزاق الذي كان معارضا لرفعت الأسد، فقد استمتع السجانون بقتله ببطء باستدعائه للإعدام الذي كانوا يؤجلونه كل مرة حتى آخر لحظة، حيث قاموا بتأجيله 40 أو 50 مرة.

وتنفذ جميع عمليات الإعدام تحت أنظار كاميرتي فيديو تسجلان أيضا بعض مشاهد التعذيب، وتوجه الفيديوهات -حسب الكاتب- إلى القصر الرئاسي، ثم يُدفن المعتقلون الذين ماتوا تحت التعذيب أو أُعدموا في مقابر جماعية محفورة بالصحراء، على بعد 10 كيلومترات من تدمر.

ويقول الشاهد الحي الذي أجرى تحقيقات مكثفة بأوضاع السجون بعد إطلاق سراحه “النظام الذي لم يستبعد الإطاحة به عام 2011، أرسل الجرافات لإخراج الجثث من أجل إخفاء أدلة الإعدام” التي تمت عام 1993، ومع ذلك تضاعف عدد المعتقلين في تدمر بعد 2011، يضيف برو “ما تغير في السجون هو عدد الأسرى الذي تضاعف 3-4 مرات” فانتقل من 7-8 آلاف إلى 70 ألفا في تدمر.

ونبه السجين السابق إلى أن التعذيب بنفس الطريقة السابقة لم يعد ممكنا مع تضاعف الأعداد، فأصبح يتم في الزنازين والمهاجع وغرف الطعام والمراحيض، أي في كل مكان يلتقي فيه السجان والمسجون، علما بأن بعض السجون سري وبعضها الآخر في مستشفيات أو أي مكان.

وبعد تدمر، قضى برو 5 سنوات أخرى في صيدنايا، حيث يتم سجن النشطاء اليساريين بشكل أساسي، ولم يتعرض للتعذيب هناك، واستغرق خروجه من سوريا سنوات ثم عقد العزم على الإدلاء بشهادته كتابة، وهو يقول “مع كل فقرة بكيت مثل طفل”.

ومن جانبه يقول الباحث سلام الكواكبي، مدير المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية في باريس، إن هناك بالفعل كتبا عن التعذيب في سوريا، مثل “القوقعة” (La Coquille) لمصطفى خليفة، لكن فيها عنصرا من الخيال، وهي بالتالي ليست حقيقية، ولذلك فإن كتاب برو فريد من نوعه، ولم يوثق أحد نظام السجون السوري مثل ما فعل.

بهروب رفعت الأسد إلى دمشق، يكون أحد أسوأ مجرمي الحرب قد فر من العدالة، على الأقل بسبب إهمال الشرطة الفرنسية، أو حتى بترتيب بين الاستخبارات الفرنسية وبين وكالات مخابرات أخرى

فرار مجرم الحرب

أما رفعت الأسد، فقد كانوا يلقبونه في السجن بـ “القائد” قبل أن يصبح اسمه بينهم “الرب” وقبل أن تسوء علاقته بشقيقه الرئيس، ويتحول ذلك إلى حرب مفتوحة كان هو الخاسر فيها، ليتم بعد ذلك نفيه قسريًا في فرنسا، بعد ترتيب مع الأسد الذي منحه ثروة هائلة لدفعه للمغادرة، وهو ما سيمكّنه، إلى جانب مصادر دخل أخرى، من امتلاك إمبراطورية عقارية ضخمة على مر السنين، والتي سيطورها بعد ذلك في إسبانيا والمملكة المتحدة.

وظل رفعت الأسد يمتلك هذه الثروة المقدرة بـ 90 مليون يورو في فرنسا حتى إدانته هناك يوم 17 يونيو/حزيران 2020 بالسجن 4 سنوات في سياق قضية “الأصول غير المشروعة” وخاصة ما يتعلق بغسل الأموال في عصابة منظمة، وقد أدين مع مصادرة ممتلكاته، وهو ما أكدته محكمة الاستئناف في 9 سبتمبر/أيلول 2021.

لكن شقيق الأسد هرب قبل أن يودع في السجن، ويتابعه القضاء السويسري كذلك بتهمة ارتكاب “جرائم حرب”.

وبعد فترة وجيزة من إدانته، أُعلن وصوله دمشق، وبحسب المحامي السوري أنور البوني، اللاجئ بألمانيا، فإن شقيق الأسد “غادر على متن طائرة خاصة من ماربيا في إسبانيا، عبر بيلاروسيا، وكان يقودها مطرب لبناني مقرب من حزب الله”.

وبهروب رفعت الأسد إلى دمشق، يكون أحد أسوأ مجرمي الحرب قد فر من العدالة، على الأقل بسبب إهمال الشرطة الفرنسية، أو حتى بترتيب بين الاستخبارات الفرنسية وبين وكالات مخابرات أخرى، وفقا لميديابارت.


عن موقع ميديا بارت (Mediapart) الفرنسي ، للاطلاع على الموضوع الأصلي اضغط هنا

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية