بعد عشر سنوات من دخول إيران الحرب على سوريا ، تستخدم طهران الدين لجعل نفوذها هناك دائمًا.
كان نظام حزب البعث بقيادة المقبور حافظ الأسد أول من اعترف بثورة آية الله روح الله الخميني الإسلامية في إيران وقدم شرعيتها. لكن الأسد كان حريصًا على عدم السماح لإيران بتوسيع نفوذها في سوريا كما فعل لاحقًا في لبنان من خلال حزب الله.
أعطى يأس نجله ووريثه بشار الأسد الفرصة أمام التوسعيين الإيرانيين.
دخلت القوات الإيرانية سوريا بعد فترة وجيزة من بدء الانتفاضة السورية قبل عقد من الزمن للمساعدة في الدفاع عن نظام الأسد الشاب ضد المعارضة .
دعمت طهران النظام السوري في الحرب ، إلى جانب وكيلها اللبناني ( ميليشيا ) حزب الله ، وحتى التحقت بمقاتلين مرتزقة شيعة من أفغانستان والعراق وباكستان للحرب على سوريا .
مع مرور الوقت ، جندت إيران مقاتلين مرتزقة سوريين محليين في ميليشيات ظاهريًا لحراسة المزارات الشيعية ، كما كثفت علاقاتها مع المراتب العليا للجهاز العسكري السوري ، ولا سيما الفرقة الرابعة برئاسة ماهر الأسد أحد أبناء حافظ الأسد الآخرين.
ولم تقم إيران بتأمين قوس التأثير عبر السلاح في كل من العراق وسوريا ولبنان، بل وفي السنوات الأخيرة وبعد انخفاض وتيرة المعارك، عملت إيران على تشجيع السنة في سوريا على التشيّع أو تخفيف مواقفهم من منافسيهم الشيعة.
إيران تحاول تقديم نفسها كقوة ناعمة من أجل بناء قاعدة دعم لها طويلة الأمد
وتحدثت “فورين بوليسي” مع عدد من السوريين الذين يعيشون داخل مناطق النظام وتحولوا للتشيع، حيث قالوا إن الأوضاع الاقتصادية جعلت من الصعوبة عليهم تجاهل الامتيازات التي تقدمها إيران. وتوفر إيران أموالا نقدية للمحتاجين السوريين مع جرعة ثقيلة من التثقيف في المدارس الدينية ومنحا لأطفالهم للدراسة في الجامعات الإيرانية وعناية صحية مجانية ورزم طعام ورحلات إلى المزارات الدينية من أجل تشجيعهم على التشيع.
وهذه الإجراءات الصغيرة ليست مكلفة بدرجة كبيرة، ولكنها تعطي إيران فرصة للتأثير على الفقراء السوريين. وقامت إيران بتجديد المزارات القديمة وبنت أخرى، وكأنها تحاول إعادة كتابة تاريخ سوريا الديني، والتي ظلت دولة ذات غالبية سنية بأقلية شيعية.
وقال عدد من الناشطين والسكان المحليين والمحللين، إن إيران تحاول تقديم نفسها كقوة ناعمة من أجل بناء قاعدة دعم لها طويلة الأمد بين السنة بهدف الاحتفاظ بتأثيرها والسيطرة على الجماعات الوكيلة لها كما فعلت في العراق ولبنان. وساعد النظام السوري الميليشيات الإيرانية من خلال قراره سيئ الذكر “أمر 10” والذي يسمح بموجبه ببيع ممتلكات اللاجئين السوريين في الخارج.
وقد اشترت الميليشيات الإيرانية بيوت السوريين وصادرتها في حالات أخرى. بل وقام أفرادها بجلب عائلاتهم من لبنان والعراق للإقامة الدائمة في سوريا. ويقول الخبراء إن الاختراق الثقافي والديمغرافي يهدف لزيادة أعداد الشيعة في سوريا ومساعدة إيران في تأكيد قوتها نيابة عنهم. ولو كان عدد كبير من الشيعة في سوريا، فستزعم إيران أنها تمثل مصالحهم في أي اتفاق نهائي للتسوية، وتطالب نيابة عنهم بمنحهم مناصب سياسية ومواقع في الجيش والمؤسسات الأخرى للدولة.
وتضيف الكاتبة أن إيران تريد ممارسة التأثير عن الداعمين لها داخل النظام الحاكم وليس الرئيس المدين بالفضل لها، والذي قد يتراجع دعمه لها في حال عقد صفقات مع روسيا والإمارات اللتين تحاولان إعادته إلى الجامعة العربية.
وعلى خلاف العراق ولبنان، فسوريا هي دولة ذات غالبية سنية، مما يعني أن مهمة إيران ستكون صعبة، لكن لا شيء يردعها على ما يبدو. وقالت المجلة إن أحمد (24 عاما) من بلدة الميادين في محافظة دير الزور شرقي سوريا، فرّ أثناء الحرب إلى بلدة الباب قرب تركيا، لكن صديقا له أخبره أن كل مشاكله ستحل لو انضم إلى كتائب السيدة زينب. وقال: “أخبرني صديقي في الميادين أنني أستطيع العودة والانضمام إلى الإيرانيين ولن يتحرش أحد بي أو بعائلتي”. ويعمل أحمد كحارس للمزار في جنوب دمشق ويحصل على 100 ألف ليرة سورية شهريا، وكان بحاجة لمال أكثر لكي يوفر المال لغسيل الكلى الذي يحتاجه والده.
محافظة دير الزور المكان الأكثر نشاطا للإيرانيين
وفي شباط/ فبراير، عرض أحد قادة الميليشيات عليه أن يضاعف راتبه لو تحول من السنة إلى الشيعة، ووافق أحمد حالا. وقال: “قبل فترة عقدنا اجتماعا مع قائد الميليشيا الذي قال إنه سيتم ترفيعنا ونحصل على أموال لو تشيعنا واستمعنا لبعض المحاضرات في السيدة زينب”. و”قلت نعم مع 20 آخرين لأننا بحاجة للمال، لو أصبحت شيعيا فسأحصل على 200 ألف ليرة سورية وأنا بحاجة للمال لعلاج والدي ولا يهمني الدين”.
وحكى تيم الأحمد، من مدينة درعا نفس القصة عن صديق انضم إلى ميليشيا تابعة لإيران ثم تشيع لاحقا. وقال: “رفّعوه وأعطوه شقة” و”يحصل على علاج صحي مجاني، وعبوات غاز شهرية رغم الأزمة الاقتصادية في سوريا”. وقال الأحمد إن صديقه حصل فجأة على منافع غير متوفرة لبقية السوريين، مثل إذن من الأمن للتنقل داخل سوريا “بدون تحرش”.
وتظل محافظة دير الزور المكان الأكثر نشاطا للإيرانيين، فقد شهدت مدينة البوكمال على الحدود العراقية نشاطات تبدو غير ضارة، ولكن فيها تلاعب خلال الفترة الماضية. فقد قامت إيران بإعادة بناء المتنزه الذي دمره تنظيم “الدولة” وسمته “متنزه الأصدقاء”، ذلك أن النظام السوري يطلق على إيران بالدولة الصديقة. وفي كل أسبوع تقوم الميليشيات بتنظيم نشاطات في المتنزه حيث يتم إخبار الناس، الأطفال بخاصة عن أئمة الشيعة، وأن إيران هي القوة التقية التي تواجه إسرائيل والإمبريالية.
وقال الناشط صياح أبو وليد من البوكمال: “كل الألعاب البريئة ما هي إلا حيلة لتغيير عقول الأطفال وعائلاتهم وجرهم نحو التشيع”. وحوّلت الميليشيات النادي الرياضي في المدينة إلى مطبخ ومطعم، والملعب البلدي إلى قاعدة عسكرية لها، كما يقول أبو وليد. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره بريطانيا، فقد دعت إيران أناساً من الميادين إلى مركز النور الثقافي الإيراني في دمشق لحضور دورة حول العقيدة الشيعية. وبعد نهاية الدورة أعطي لكل الناجحين 100 ألف ليرة سورية وسلة غذاء.
وافتتحت إيران عددا من المدارس والجمعيات الخيرية والمزارات ولم تجد مقاومة كبيرة للتوسع في دمشق وحلب، إلا أنها حاولت إغراء قادة العشائر في دير الزور للتوسع في المحافظة. وعادة ما يهتم قادة العشائر بمصالحهم ودعم القوة الصاعدة أيا كانت. ورد أعضاء قبيلة البقارة بإيجابية؛ لأن أحد قادتها وجد منفعة من التقارب مع إيران.
وعلى الجانب الآخر من الحدود، تقوم كتائب عصائب الحق، التي تعمل ضمن الحشد الشعبي العراقي بحماية المصالح الإيرانية. ونظرا لعدم اهتمام روسيا بدير الزور، فلا تجد إيران أي منافس لها لإنشاء معسكرات فيها. ويرى الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي، والمقيم في أمريكا، أن نشاطات إيران وحضورها يزرع بذور التمرد في المستقبل، و”هناك إمكانية لمواجهات ضد الغزو الفارسي”.
وجد الإيرانيون سهولة في التلاعب بالسوريين الذين تأثروا بشدة من الحرب
وقال بربندي إن “الإيرانيين وحزب الله ذهبوا أولا إلى مناطق العلويين مثل اللاذقية، لكن العلويين مجتمع مفتوح عندما يتعلق الأمر بالدين والأعراف الاجتماعية ويحبون الشراب، وقال العلويون للإيرانيين: مع السلامة وحظا سعيدا. ووجد الإيرانيون سهولة في التلاعب بالسوريين الذين تأثروا بشدة من الحرب، وبالتالي توسعوا في المناطق التي سيطر عليها تنظيم الدولة سابقا”.
ويقول نوار شعبان من مركز عمران للدراسات الإستراتيجية، إن إيران تبني ببطء وبشكل ثابت علاقات مع السوريين من كل الطبقات الاجتماعية. و”اشترت إيران عقارات في دير الزور والمناطق التي يسيطر عليها الأكراد عبر وكلاء محليين”. و”نسجوا شبكة عنكبوت في سوريا ولديهم ناسهم في كل مكان، في الجيش والحكومة وحتى بين التجار السنة والمسيحيين”. ورغم العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترامب على إيران ضمن سياسة أقصى ضغط، إلا أنها ظلت تدعم الأسد.
وفي زيارة للصحافية أنشال فوهرا إلى دمشق في آب/ أغسطس للمشاركة في المعرض التجاري، كانت معظم الأكشاك وعددها 31 هي إيرانية تعرض كل شيء من الطاقة إلى البسكويت والصابون. وبعد عامين، أُعلن عن إنشاء غرفة التجارة المشتركة السورية- الإيرانية، وفي الشهر الماضي زار وفد إيراني دمشق لزيادة بصمات إيران الاقتصادية في سوريا.
ويخشى مراقبون أن تقوم إيران التي لم تتوقف عن دعم النظام من ضخ المال للميليشيات والجمعيات الخيرية، لدفع التشيع في حال عاد بايدن للاتفاق النووي.
فبعد عامين على توقيع الاتفاق، زادت إيران من دعمها لميليشيا حزب الله. ولا توجد إحصائيات حول عدد السوريين الذين غيروا طائفتهم للتشيع، أو من خففوا موقفهم من الشيعة.
لكن التأثير العسكري والاقتصادي والميليشياوي في سوريا يخلق الظروف لظهور خطوط صدع جديدة في بلد هشّ على كل الجبهات. وحينها من السهل الحديث عن مفاقمة إيران التوترات الطائفية في المنطقة.