يدي.. التي أكلها النمل لـ:فاضل السباعي

يدي.. التي أكلها النمل
لـ: فاضل السباعي

[ult_ihover thumb_shape=”square” thumb_height_width=”180″][ult_ihover_item title=”فاضل السباعي” thumb_img=”id^59957|url^https://ebd3.net/wp-content/uploads/2018/01/فاضل-السباعي.jpg|caption^null|alt^null|title^فاضل السباعي|description^null” hover_effect=”effect17″ title_font_color=”#2cd3b4″ desc_font_color=”#0b80b8″ spacer_border_width=”1″ title_responsive_font_size=”desktop:22px;” title_responsive_line_height=”desktop:28px;” desc_responsive_font_size=”desktop:12px;” desc_responsive_line_height=”desktop:18px;”]أديب سوري[/ult_ihover_item][/ult_ihover]
كنت أتوقع، بعد الذي كتبت في ذلك اليوم، أن يطلبوني. وعند الفجر سمعت طرقًا على الباب، إنهم “زوّار الفجر” قد جاؤوا.
سألني كبيرهم:
ــ أنت المواطن “…..”؟
أجبت:
ــ نعم.
قال:
ــ نحن فرع “الأربع أربعات”. تفضّل معنا. خمس دقائق فقط!

لم أطلب منهم بطاقة شخصية للتثبّت، كانت وجوههم تُنبي. ولأني كنت أعرف أنّ هذا الفرع هو الأقسى، فقد أدركت أنّ “اللقاء” سيكون صعبا، وكنت – كالعهد بنفسي – مستعدّا لكلّ احتمالء. ألبسوا رأسي كيسا أسود ذا ثقوب، وأخذوا يدي، يدي اليمنى التي خطّت ذلك الكلام، واقتادوني. ومضوا بي في سيارتهم التي تخضّني يمينًا ويسارا، يخترقون طرقات لا تُبصرها عيناي.

هناك سألني المحقق، الذي تَخرُج الكلمات بصعوبة من جانب فمه الذي يمسك بسيكار كوبيّ:

ــ فأنت تكتب أنّ قذائف الهاون، التي تتساقط على رؤوس الناس، هي من فعلنا… وقلتَ متحذلقًا: إنها من “إبداع النظام”!

قلت:
ــ نعم.
ــ وتعترف؟
ــ وكيف أُنكر ما كتبتْه يدي، وقرأه الناس في “العنكبوتيّة” أمس، وجاءني عليه كثير من التعليقات!

سألني بكثير من الجِدّية:
ــ أمعقول أنّ مَن جريتَ على أن تُسمّيه “النظام”، يقتل أبناء الوطن؟
ــ هذا ما يجري منذ زمن، يا سيدي.
ــ وبالهاون أيضا؟
ــ وبالسكود والبراميل والكيماوي… ذلك ما يعرفه الجميع.
ــ خلِّنا في الهاون، من أين جئت بهذه “المعلومة”؟
ــ جندي جريء، بَقَّ هذه الحَصاة في رسالة نشرها: «أمرونا بأن نضرب الناس بالهاون حتى يظنّوا أنّ الضرب آت من المقاتلين فيكرهوهم، ويؤيدوا سحقَهم هم وحواضنَهم»، وختم: «أقول هذا وأنا ذاهب لألقى حتفي».
ــ ما اسم هذا المفتري؟
ــ لا أذكر.
ــ فمن أين جئت بهذه الفِرية؟
ــ من صفحةِ آخَر، صوّر هذه الكلمات وأذاعها.
ــ من هو هذا الآخر؟
ــ كنت أتنقّل في “الرئيسيّة” فقرأتُ هذا عابرًا.

كان قد آن للمحقق أن يأخذ من السيكار نفسا عميقا يَمجّه دوائر.
ــ يدُك التي كتبتَ بها هذا… سوف نُطعِمها… للنمل!

لا أعرف لماذا ملأت الابتسامة وجهي وأنا أسائل نفسي: لم لم يقل “الدود”، الذي يأكل الموتى تحت التراب!

سألني:
ــ بأيّ يد تكتب؟ يمين، يسار؟

ولأني خشيت على يدي التي أكتب بها، فقد راوغت:
ــ اليسرى!
ــ فأنت أعسر، دائما تكونون… متميّزين حتى في الشرّ!

وقدّم لي ورقة وقلما، وأمرني أن أكتب: «أنا المواطن “……”، عضو اتحاد الكتّاب في جمهورية فردوسيا، أُقرّ وأعترف…».

قلت:
ــ إني أكتب باليمنى، يا سيدي.

قرّعني:
ــ تظلون، أنتم المعارضين الذين تتعاملون مع الأجنبي، تتشَيْطنون، حتى بالتصريح عن اليد التي بها تكتبون. لنتأكّد أولا.

وعاد يُملي عبارته.

استأذنتُه:
ــ هل تسمح بأن أستبدل بها عبارة من عندي؟

قال باسمًا:
ــ اكتبْ ما يحلو لك وأنت تُودِّع يدَك!

وبيدي اليمنى أخذت أكتب بخطّي المتأنّق: «أنا المواطن برهان البرهاني أقرّ بأني أعشق الحقيقة ولا أتوانى عن…».

أمرني بأن أتوقّف عن المتابعة:
ــ في التقارير عندنا أنك مشاكس عنيد، يتأكّد هذا لي الآن. عبارتك التي كتبتها هنا ستكون آخر ما تخطّ يمينُك! (ونادى) هاتوا “كيس النمل”!

حقيقة، لم يُداخلني الخوفُ، وأنا في فرع الأربع أربعات السيّئ السمعة، بقدر ما حلّ بي العجبُ من أنّ العقاب على ما كتبتْ يدي يقبع في “كيس نمل”، وفكرت في أنّ هذا على الأقلّ، أهون من قطع اليد… ومِن مَتّ العنق!

ودخل جلوازٌ يدفع أمامه عربة صغيرة.
ــ جاهز، سيدي.

لم يغادر المحقق مكتبه. والعسكري رأيته يفكّ عُقدة “كيس” فوق العربة، ثمّ يطلب مني أن أُدخل يدي اليمنى فيه. استجبت. أغلق الكيس وربط. قال وهو يرسم بسمة بلهاء على فمه:
ــ خمس دقائق فقط!

فتلك هي الدقائق الخمس التي وعدوني بها!

هل أقول إنّ حشرات صغيرة، هي النّمل كما قالوا، بدأت تغزو كفّي، ظاهرَها والباطن؟ هل قطعوا عن هذه النِّمَال القوتَ أياما حتى غدت شديدة الجوع والقَرص؟ يا لها من أفانين! ومن عجبٍ أني لم أشعر بألم من ذلك كلّه، ولا انطلقت من فمي تأوّهةٌ واحدة.

أعلن المحقق وهو ينظر في ساعته:
ــ انقضت الدقائق الخمس. أطلقْ سراح يده.

وأخرجت يدي من الكيس وقد علاها سوادٌ هو تزاحم مواكب النمل فوقها حتى لم تبدُ لعيني بارقةٌ من جِلد يدي الحنطيّ اللون.

تناول الجلواز الصغير كيسا أسود ألبَسه يدي، التي يشتدّ فيها التآكل، وأحكم الإغلاق عند المعصم، بمادة شديدة اللصق، وهو يمنحني بسمة بلهاء أخرى، فجاريته بابتسامة وديعة وأنا أحدّث النفس: إنه لموضوعٌ شائق أكتبه وأبثّه بين الناس!

قال المحقق:
ــ مسموح لك الآن أن تغادر!

ورافقني الجلواز، أحمل يمناي التي أحسّها تتآكل.

على بابهم استوقفني جلواز آخر. أخذ يدي، في كيسها الأسود، بَسَطها على الطاولة، سوّاها، أحكم تثبيتها بسُيُور… وبسكين همّ بأن يحتزّها… اعترضت:
ــ ولكنها يدي، أيها الإنسان!

أجابني:
ــ أعرف، أيها المعتقل…وهل يمكن أن تكون يد غيرك!

وأَمضى سكينَه في معصمي، دون أن يجتاحني ألم، فاصلا الكفّ عن الذراع، وحمّلني إيّاها، وسمعته أذناي يقول كالناصح:
ــ حافظ على يدك الأخرى!

وبينما كنت أمشي باتجاه البيت، حاملا يدي بيدي الأخرى، خطر لي أن أتساءل: ماذا لو أنهم كانوا قطعوا إحدى قدميّ، كيف كان يمكنني أن أقطع الطريق!

أعترف لكم، أيها الأصدقاء، بأني لحظة استيقظت أخرجت يدي اليسرى من تحت اللحاف قصد أن أتناول يدي المقطوعة، أركّبها، فلعلّها تعود إلى موضعها بنفس الأعجوبة التي بها قطعت.

لم أجدها على المنضدة بجواري.
جَزِعتُ.
ثمّ تبيّنت أنها لم تغادر ذراعي.
وهأنذا أكتب بها لكم… أضغاث أحلامي.

عن المجلة الالكترونية “رؤية سورية”
وصفحة الأديب فاضل السباعي على الفيسبوك 

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية