عشت خمسة أيام في ذلك القبو المظلم الواقع على أطراف مدينة زملكا من جهة عين ترما في الغوطة الشرقية، بعد إعلان التوصل لاتفاق يقضي بترحيلنا إلى الشمال السوري. كنا ننتظر بفارغ الصبر دورنا لركوب الحافلات التي ستقلنا إلى الشمال، لنعيش مرحلة جديدة وغامضة من مراحل الثورة السورية.
خلال هذه الأيام كنت أتوجه بشكل يومي من زملكا إلى عربين، حاملاً أمتعة قليلة لم أعد أملك سواها، على أمل أن أجد مكاناً فارغاً في إحدى الحافلات التي تدخل إلى ساحة غبير في عربين، المكان المتفق عليه لنقل من يرغب من أهالي الغوطة إلى الشمال.
بصحبة أخرين، كنت أعبر يومياً من سوق زملكا الرئيسي الذي تحوّل إلى سوق يقصده من يرغب بالخروج من الغوطة، إما لبيع دراجته النارية أو لشراء سلاح فردي يصطحبه معه في رحلته المجهولة، أو ليشتري حقيبة شخصية يضع فيها حاجاته الشخصية. على أطراف السوق ينتشر باعة مواد غذائية لم يكترث لها إلا القليل من رواد السوق.
مع عبورنا الأول للسوق، ركضنا بضعة أمتار، لاشعورياً، حال سماعنا أصوات إطلاق نار قريب، وتوقفنا عندما أدركنا أن الصوت من بندقية يجربها أحد تجار السلاح لزبائنه، لا من اشتباك مع قوات النظام. ظاهرة غريبة ومرحلية، إذ لم يسبق أن تجرأ الناس على تجريب الأسلحة بين منازل المدنيين بهذه الكثافة خلال سنوات الثورة السابقة. ضحكت في سري وحمدت الله لمنع اصطحاب القنابل إلى الشمال، كي لا يتم تجريبها في ازدحام هذا السوق الشعبي.
تجاوزنا سوق زملكا، واتجهنا نحو عربين، حيث يتصاعد الغبار الأشبه بالضباب على الطرقات، ما ذكرني بلحظات تساقط الصواريخ والقذائف على الأحياء السكنية. ومع الاقتراب من ساحة غبير، بدأت العائلات الجالسة على أطراف الساحة تظهر من الغبار.. مئات العائلات تتربع على أطراف الطرقات تنتظر وصول الحافلات، منها من يجلس على السجاد والفرش وأمامها بقايا مأكولات، ما يعني وجودها منذ أكثر من يوم، ومنها من هو مثلنا، حديث الوصول، لم يقتنِ إلا بضع حقائب شخصية ينتظر إلى جانب الطريق، معتقداً بأن وصول الحافلات الفارغة، بات قريباً جداً.
المفاجأة كانت بوصول حافلات محجوزة من مدنيين مسلحين وعناصر فصائل عسكرية. كل مجموعة اقتادت حافلة، وحجزتها، وأدخلتها إلى عمق الغوطة لتنقل بها عائلاتها واقاربها، دون غيرهم. كانت الحافلات تشق طريقها بين ركام الأبنية ولا تتوقف أمام العائلات التي تنتظر على أطراف الطرقات، إنما تتبع توجيهات من حجزها واقتادها.
يحاول المدنيون الذين ينتظرون على أطراف الطرقات أن يصعدوا إلى حافلات التهجير القسري إلا أن من سيطر عليها منع السائقين من فتح أبوابها. تجاهل السائقون أفواج الناس وتابعوا طريقهم، مذهولين من حجم الدمار، ومن مغامرة الدخول إلى منطقة مجهولة، لا يرشدهم فيها إلا من سيطر على الحافلة بقوة السلاح.
قررت وعائلتي، أن نسير خلف عشرات العائلات، على طريق قدوم الباصات من مناطق سيطرة قوات النظام. سلكنا الطريق المليء بالركام، الذي لا يكاد يتسع لحافلة واحدة، وكلما وصلت إلينا إحداها نتسلق أكوام الركام على جانب الطريق لنفسح لها ممراً ضيقاً.
عبرنا ساتراً ترابياً ضخماً، بدا واضحاً أنه كان خطاً فاصلاً مع قوات النظام، وأدركنا أننا أصبحنا في مناطق سيطرة النظام. وبعد مئات الأمتار أصبحنا على مقربة من بناء أبيض شاهق، بناء المحافظة الذي يفصلنا عنه كراج الحجز. عادت بي الذاكرة إلى معارك الكر والفر بين النظام والمعارضة في معركة “بأنهم ظلموا” التي دارت في هذه المنطقة.
بضع عائلات تناست الخوف، وتابعت مسيرها نحو الاتوستراد الدولي باتجاه “المخابرات الجوية”، على أمل ركوب إحدى الحافلات التي لم يحتجزها أحد بعد. كانت أصوات المشاجرات تأتي من بعيد، فأدركت أنها محاولات للسيطرة على الحافلات من المدنيين أو عناصر الفصائل لاقتيادها إلى عمق الغوطة، ليقوم من يحتجزها بنقل أقاربه وذويه حتى لا يطول مكوثهم في الغوطة.
انتهت معاناتنا بالقصف، لتبدأ معاناة ركوب حافلة تنقلنا إلى الشمال، وبعد غياب الشمس بساعتين، دخلت آخر حافلة، ولم يكن لنا نصيب فيها أيضاً.
ملأ الغبار أنوفنا، والتعب أنهكنا، وتاقت أفواهنا لماء الآبار العكرة من شدة العطش، فعدنا سيراً على الأقدام، واتخذنا قراراً جماعياً مع أصدقائنا بتشكيل فريق مهمته الحصول على حافلة، أسوة بما يفعله بقية الخارجين، بينما ينتظر بقيتنا مع الأمتعة في القبو الذي نبيت فيه. بعد أيام، تمكن الفريق من الفوز بحافلة، وأحضروها إلينا.
كانت فرحتنا لا توصف عند وصول الحافلة إلى مدخل ذلك القبو المظلم. ترجّل السائق الخائف، متلفتاً حوله، ناظراً إلى حجم الدمار والأسلاك المتقطعة الأشبه بخيوط العنكبوت. اعتلت وجهه تعابير غريبة بعدما شرب كأساً من الماء، كان قد طلبها. استياؤه كان جلياً بعدما تذوق الشاي الذي أعددناه، ريثما نضع الأمتعة. مذاق الشاي الطيني الذي أثار استياء السائق كنا قد اعتدنا على شربه لسنوات طويلة.
طمأن بعضنا السائق، وسأله عن مخاطر الرحلة. أخبرنا أن قوات النظام أوقفته على الطريق، وأنزلت جميع ركاب حافلته، وأجبرته على دخول الغوطة كغيره من السائقين، عوضاً عن إدخال باصات يقودها مؤيدو النظام، كي لا يتعرضوا للخطر. وشرح لنا آلية التفتيش والمسافة. وبعدما اطمأن لنا، أخرج نارجيلته من دون أن يسألنا إن كانت حراماً، على عكس ما يظنه كثيرون ممن هم خارج الغوطة، بأن النارجيلة محرمة وقد تعرض شاربها للعقوبة. توجه السائق إلى كبّاس الماء المحلي، وملأ نارجيلته بالماء العكر، وجهزها وبدأ يدخنها، ريثما ننتهي من تجهيز أمتعنا.
بدأ السائق يتعاطف معنا، وسمح لنا باستخدام الصندوق المخصص لمنامته كي نضع فيه الحقائب التي لم يتسع لها مكان. امتلأ الصندوق وبالكاد تمكن السائق مع إغلاقه.
بدأنا بالصعود إلى الحافلة، وكان معظمنا يحمل الأسلحة الفردية، لا حباً بالسلاح بل احتياطاً من أي طارئ قد يعترضنا على الطريق. فقد رشحت إلينا النصائح ممن سبقونا إلى الشمال، بأن حمل السلاح ضرورة، لأسباب سنعرفها تلقائياً خلال رحلتنا.
اتفقنا مع أصدقائنا بأن ندع النساء والأطفال يجلسون في مؤخرة الحافلة، بينما يجلس الرجال في المقدمة، كي نحاول منع عناصر النظام من الوصول إلى النساء أثناء التفتيش، وبعدها يعود كل شخص إلى مكانه ويجلس مع زوجته وأولاده.
اتفقنا على إعطاء أسماء وهمية لعناصر التفتيش، وعدم إظهار بطاقاتنا الشخصية، وأعطينا الأطفال أسماء وهمية أيضاً. وحمل الرجال النقود والمصاغ الذهبي، لأن من سبقنا أخبرنا أن المتطوعات ممن يفتشن النساء، على حواجز النظام، يحاولن سرقة ما يستطعن.
تجهزنا وجلسنا في مقاعدنا، حاولنا إخفاء أي شيئ ظنناه ثميناً بين الأمتعة، أو في أي مكان من الحافلة. نسينا أن أغلى ما نملكه تركناه خلفنا.. أرضنا وذكرياتنا.
بدأت حدقات عيوني تتشبث بالأبنية المدمرة، وتكاد لا تتركها، وتحاول حفظ أكبر قدر ممكن من الصور في المخيلة. كنت أتلفت يميناً وشمالاً مودعاً الأطلال المدمرة، بعناية، كانت الحجارة تتلاطم تحت عجلات الحافلة، وبدأت الأسلاك المتدلية تعيق حركتنا في الحارات المدمرة. صعد مساعد السائق للأعلى كي يحرر هذه الأسلاك وملامح الدهشة تبدو على وجهه وهو ينظر إلى الناس من حوله وكأنه يقول لهم: كيف كنتم تعيشون هنا؟
بدأت الحافلة تجتاز ركام الحارات، وهناك من ينظر إلينا من خلف ستارة نافذة، ومن ينظر إلينا بعين الحسد كونه لم يتمكن من الرحيل بعد. امرأة مسنة جلست على عمود، بيدها مسبحة طويلة، تصارع ظهرها المعوج راغبة في النظر إلى أعلى.. إلى الحافلة.
تمكنت الحافلة من الوصول إلى دوار غبير، متجاوزة مئات العائلات المترامية على أطراف الطريق، وبدأت تسلك الطريق الأضيق الذي لا يكاد يتسع لها. بدأنا نودع أطلال الغوطة بنظراتنا الأخيرة، كنا نرى أحياء مدمرة بالكامل كانت خطوطاً للجبهات، وبدأنا الاقتراب من نقاط تمركز قوات النظام. اقتربنا من عقدة الاتوستراد على أطراف حرستا. لم أصل إلى هذه المنطقة منذ سبعة أعوام. اختفى شجر الزيتون الذي كان يزين العقدة، وبقيت جذوع تحمل بضع وريقات. تغيرت ملامح الطريق، فامتلأت أطرافه ببراميل التراب وإطارات السيارات، ترتفع عليها أعلام النظام المغبرة، كرجل هرم يستند إلى عكازه.
صحونا من غفلة الوداع، وبدأنا نتجهز للتفتيش، فتلثمنا بالشماخات التي كانت تلف رقابنا. هكذا نصحنا من سبقنا بمغادرة الغوطة لسببين؛ الهرب من كاميرات وسائل إعلام النظام، والتشبه بعناصر “هيئة تحرير الشام” الذين يزرعون الخوف في قلوب عناصر النظام فلا يتجرؤون على تفتيشهم. أظهرنا أسلحتنا، وأخفينا وجوهنا، وكنا ننظر بتمعن في وجوه عناصر النظام الذين يفتشون الحافلات التي أمامنا. دنت حافلتنا ببطء نحو دشمة التفتيش، تحسست سلاحي والمال الذي بحوزتي. كنت قد أخفيت بعض الأشياء التي يُمنع إخراجها في مكان ما من الحافلة.
صعد إلى الحافلة عنصر من النظام يلبس نظارة طبية، وتوقف على العتبة الثانية من درج الحافلة. لم أرَ أكثر من وجهه. ولم تتجاوز نظرته المقعد الثاني. تكلم مع الشباب الجالسين في المقعد الأول، وتهرب من النظر إلى وجوههم. ارتفع درجة أخرى، وأظهر سجلاً وقلماً. فهمت من بعيد أنه يريد تسجيل أسماء ركاب الحافلة. لم يمكث طويلاً ونزل من دون أن يكتب شيئاً.
صعد إلى الحافلة جندي روسي أشقر طويل، حيّانا: “بالسلام عليكم، كيف حالكم”، بعربية ثقيلة، وحدثنا عن شروط حمل السلاح وعدده ونوعيته. كنا نفهم إشارات يديه أكثر من كلامه، فالقنبلة تعني كفين مجموعين على بعضهما، ويديه على خصره تعني منع الحزام الناسف. لم يتجاوز بدوره المقعد الأول، ولم يتحرك أي منا ليظهر إن كان معه سلاح ممنوع. كان اتفاقنا مع بقية الركاب هو إظهار السلاح لإرهاب عناصر النظام، ومنعهم من الاقتراب منا في الحافلة. وكان الكثير منا مستعد لمنع التفتيش بتهديد السلاح.
صعد جندي روسي ثانٍ، أثقلته المعدات والبندقية، وتحدث إلى العسكري الأول الذي يتكلم العربية، وكأنه أعلى منه رتبة، ثم صعد عنصر من النظام إلى الحافلة تظهر عليه ملامح الفوضى ولم يكن يلبس قبعة عسكرية. أشار له الضابط الروسي بأن ينزل ففعل. دخل الضابط الروسي بيننا، وتجول بين المقاعد للتفتيش، إلا أنه كان مستعجلاً، وكأنه يخشى حدوث شيء ما. وصل إلى جانبي، واستغرب أنني لا أحمل سلاحاً، فأشرت له إلى مسدسي، فلمسه بسرعة، وكأنه اطمئن إلي أكثر من حاملي البنادق. وصل إلى بداية مقاعد النساء، وعاد أدراجه، فنزل من بعده بقية العناصر من الحافلة. ثم صعد الضابط الروسي مجدداً، بصحبة متطوعتين لدى النظام، ترتديان بناطيل جينز وحجابات خضراء، كعادة علوية جديدة. طلبت المتطوعتان من النساء فتح الحقائب لتفتيشها، وأشار إليهما الضابط الروسي بالسرعة بالتفتيش. بالكاد لامست المتطوعتان الحقائب، كإجراء روتيني. نظرات الحقد لم يكن سهلاً إخفاؤها عن وجوههن، فيما تتحدثان مع النساء بلؤم. كنا نحدق بهما بنظرات، متفق عليها، لإثارة الرعب في قلبهما.
مجدداً صعد الجندي من قوات النظام، صاحب النظارة، وأعطى دفتره وقلمه لأحد الركاب، وطلب منه تسجيل أسماء الركاب وعدد الأطفال. وبالفعل تم تسجيلها، من دون الرجوع إلى البطاقات الشخصية، وانتهى التفتيش، ونزل الجميع، وطلب الضابط الروسي من سائق الحافلة فتح الصندوق الجانبي لتفتيش الحقائب. كنت استرق النظر إلى العناصر الروس والسوريين وألتقط بهاتفي بعض الصور غير الواضحة، حاول العناصر السوريون تفتيش الحقائب بدقة، إلا أن الضابط الروسي أشار إليهم بيديه أن أسرعوا، وملامح الغضب تتضح على وجهه.
كان بعض عناصر النظام ينظرون إلى الباصات والفرحة ترتسم على وجوههم ويحاولون اختراق النوافذ بنظراتهم لكن وجود الروس كان يكبح جماحهم.
كان الجو حاراً واللثام يضيق على أنفاسنا والعرق يتصبب منا، فيما الخوف يخيم على الجميع، خاصة النساء والأطفال.
بعد بضعة أمتار من الحاجز، انتشرت كاميرات التلفزيونات الموالية للنظام. رأينا أشخاصاً يلبسون ثياباً نظيفة وأنيقة، من إعلاميي النظام. أسدلنا الستائر كي لا يلتقطوا صورنا، وأزلنا اللثام عن وجوهنا. كان العرق يتصبب مني. انتهت المرحلة الأصعب، لم نخسر أي شيء من أمتعتنا. زادت سرعة الحافلة بعد فتح الطريق أمامها، وتجاوزنا بناء “المخابرات الجوية”، ووصلنا حديقة واسعة قبل اتوستراد العدوي تطل على حي القابون الدمشقي. كان الدمار واضحاً على الأبنية، عادت ذاكرتي إلى العام 2012 عندما رأيت الجرافات تزيل الأبنية في هذه المنطقة بعد تحرير المعارضة لحي القابون.
نزلنا من الحافلات في هذه الحديقة، وانتظرنا وصول بقية حافلات القافلة. كانت الساعة الخامسة مساءً، أي مضى علي انطلاقنا خمس ساعات. جلسنا في الحديقة، واصطحبت النساء الأطفال إلى خلف ساتر ترابي صغير لقضاء حاجاتهم. أما نحن، فلأول مرة منذ ست سنوات، نتمكن من تشغيل هواتفنا الشخصية على الشبكات المحلية من دون عناء. بدأنا بإجراء الاتصالات لنطمئن ذوينا، وأخبرناهم أننا تجاوزنا مرحلة التفتيش، وبانتظار اكتمال القافلة للبدء بالانطلاق. كان الاتوستراد ممتلئاً بالسيارات التي تتمهل عند المرور بنا، لتخرج من شبابيكها الهواتف الشخصية، وتلتقط صورنا. السيارات العسكرية والدبابات وعربات البي أم بي، كانت عندما تجتاز الطريق، يشتمنا العساكر، ويسخرون منا، ويصوروننا. إلا أن فرحتنا كانت أكبر من أن نقف عند شتائمهم.
بعد حوالي نصف ساعة، طلب منا بعض عناصر النظام التوجه للحافلات، وانطلقت الرحلة، فأعدنا توزيع مقاعدنا. بعد قليل، توقفت الحافلات مجدداً، فنزلنا منها، وكانت الشمس قد غابت، فأقمنا الصلاة. خلال الصلاة انطلقت الحافلات، البعض ترك صلاته ليلحق بحافلته. استطعنا الركوب بالحافلات التي سارت ببطء إلى أن صعدنا، وانطلق المسير مجدداً. مررنا من شمال معمل كراش، حيث كان ثوار الغوطة ما زالوا يرابطون في نقاطهم في حي جوبر جنوبي المعمل. ومررنا من اتوتستراد العدوي، وشاهدنا شوارع دمشق، المليئة بالسيارات. كانت المفاجأة هي تلويح بعض المدنيين لنا بالأحذية، وبصاقهم علينا، والإشارة إلينا بأيديهم بحركات سيئة. هذه المواقف كانت متوقعة في قرى الساحل السوري، لا في دمشق. كان بعض المدنيين ينظرون إلى القافلة بنظرات حزينة، وكأنهم يودعوننا.
لأول مرة منذ سنوات طويلة نرى أبنية تشع منها الإنارة بشكل كامل، وشوارع مليئة بالسيارات، ومحلات ممتلئة بالأطعمة، بالخبز. كان شرطي مرور يقف إلى جانب الطريق، كانت ألبسة الناس مميزة. وقفت الحافلة، بضع ثوانٍ، حيث أعطى عناصر من الهلال الأحمر لمرافق السائق صناديق ماء مغلفة وربطات خبز. تم توزيع رغيف خبز على كل شخص. الرغيف كان ناصع البياض، يشبه الجندي الروسي، وليس كالخبز الذي اعتدنا عليه في الغوطة والذي يشبه ذاك الجندي السوري. طعم الماء كان غير مستساغ، وكدت أختنق. اعتدت خلال سنوات الحصار على الماء ذي الطعم الرديء، واللون العكر. كنت قد جلبت معي قنينة ماء، فشربت منها، فاستسغت طعمها السيء. طفلتي الصغيرة أرادت الشرب من المياه النظيفة لأنها مميزة الشكل فقط، ولم تكن تدرك الفرق بين العبوتين. بعد قليل، ووزعوا كؤوس ماء بلاستيكية، وزبدة للأطفال، ليأكلوها على الطريق.
خيّم الظلام على المنطقة، كنت ألتقط بعض الصور بعدسة هاتفي، وبعد دقائق خرجنا من دمشق. كنت أودعها بنظرات حزينة وأتساءل هل ستكون هذه آخر مرة أراها فيها. حاولت تذكر لحظات قديمة، مررت بها من تلك الشوارع.
اجتزنا دمشق وسرنا باتجاه اتوستراد حمص، لم أعد أهتم بتفاصيل الطريق، وإنما أصبح ما يهمني هو تفاصيل جلستي في المقعد والعرق الذي يتصبب من جسدي والمسدس الذي يضايق صدري. كنت أتناوب على حمل طفلتي المريضة مع زوجتي في ذاك الكرسي الضيق. الشاب الذي يجلس أمامي قد أعاد كرسيه للخلف ونام، فاستند إلى قدمي لأشعر وكأنني مكبل. طفلتي تقلبت بين ذراعي، وطلبت الماء بين الحين والآخر. كان رذاذ سعالها يملأ وجهي، لكني لم أكن أكترث، فأنا لم استحم منذ عشرين يوماً، ولن يؤثر رذاذ طفلتي على وجهي الذي ظننته أصبح كالشبح، ولم أنظر في مرآة منذ أيام بعيدة.
كنت أفتح هاتفي بين الحين والآخر لأرد على رسائل الأقارب والأصدقاء، عشرات الرسائل من نشطاء محافظة إدلب وردتني جميعهم يطلبون مني أن أحل عندهم. لم أكن قد وصلت إدلب، ولم أرَ أهلها، لكني عرفت كرمهم قبل الوصول.
كانت أجوبتي سريعة على الرسائل، محاولاً توفير شحن الهاتف. بعض النشطاء في قلعة المضيق راسلوني بشكل متواصل ليطمئنوا علي، ويؤكدوا على ضرورة أن نلتقي فور وصولي إلى القلعة، كنت أسال السائق من بعيد عن المكان الذي وصلنا إليه.
في بداية الرحلة كان صوت الأطفال صاخباً، ومع مرور الوقت ساد الهدوء، وتخلله بين الحين والآخر بكاء طفل جائع أو طفل يريد قضاء حاجته. معظم السيدات ألبسوا أطفالهم، حتى الكبار نسبياً منهم، حفاضات، كإجراء احترازي في حال لم نتوقف في أي محطة استراحة. وبالفعل لم نتوقف نهائياً.
درجة الحرارة داخل الحافلة مرتفعة جداً، والهواء غير نظيف، وتنتشر الروائح التي يطلقها الأطفال، وتتخللها رائحة نارجيلة السائق. الجوع غزا بطوننا، لكنا قررنا ألا نأكل، فالحافلة لن تتوقف في أي محطة، حتى أننا حرمنا الأطفال من الطعام لنفس السبب، وكنا لا نسقيهم الماء بالقدر الكافي.
الركاب تناوبوا تلقائياً بين النوم واليقظة، بين من يفتح هاتفه ومن يغلقه، بين من يسكت طفله ومن يبكي.
وصلنا إلى منطقة فيها برج عالٍ، يتصاعد اللهب من أعلاه، فتذكرت أنها مصفاة حمص.. هنا أديت الخدمة العسكرية.. التعب أنهكني ولم استطع النوم. نزلت من مقعدي وارتميت في الممر، إلى جانب نيام آخرين، فأحسست براحة كبيرة بعدما عاد الدم يجري في عروقي. أخذت قسطاً من النوم، رغم انتشار رائحة الجوارب والأحذية.
وصلنا طريق طرطوس حوالي الساعة الواحدة ليلاً. صعدت إلى مقعدي مجدداً، وحملت طفلتي التي كنت قد مددتها على الكرسي. قرى طرطوس، المنطقة الأصعب والمرحلة الأسوأ. طلب منا رفاقنا إغلاق الستائر تفادياً للإهانات ففعلنا، لكن الأصوات في الخارج كانت عالية، وشيء ما واصل الطرق على النوافذ. عرفنا أنها الأحذية، من دون أن نراها. لم نكترث للأحذية لكن خشينا من إطلاق النار علينا.
شققت ستارة نافذتي. أعداد من المدنيين الموالين للنظام، يرشقون القافلة بالأحذية والحجارة ويبصقون عليها. كنت استرق النظر وأقول “يلعن روحك يا حافظ”. من حسن حظنا أن قافلتنا وصلت قرى طرطوس في وقت متأخر ليلاً، فعدد الموالين قليل جداً. القافلات التي عبرت المنطقة نهاراً في الأيام الماضية تعرضت لأشد أنواع الإهانات. بعضها أجبرت على التوقف، وسرقت المقتنيات، وضُرب الركاب وأهينوا.
بدأ المطر بالهطول، والجو بدأ يتغير. وركاب الحافلة ينظرون حولهم ويحاول الجميع تغيير جلسته. احترنا ما بين فتح النوافذ للتهوية، أو إغلاقها بسبب تقلب الجو. تقوقعت بعض النساء في المقاعد. كن يتقيأن من شدة الروائح، في أكياس وزعها سائق الحافلة، عندما صعدنا.
الركاب كانوا ما بين نائم ومستيقظ، عندما توقفت الحافلة فجأة، وانتشرت فيها رائحة احتراق قوية. استيقظ الجميع، ونزل السائق، والمسّاحات تمسح المطر عن النوافذ الأمامية. تعطلت الحافلة. كان الموقف حرجاً جداً، وبدأت الحافلات خلفنا تتجاوزنا بسرعة. أضواؤها الساطعة عبرت من جانبنا. تجاوزتنا القافلة، وبقيت حافلتنا متوقفة. كانت قلوب الركاب تنبض مع حركة السائق محاولاً إصلاح الحافلة. كانت أعصابنا مشدودة، فنحن نعلم ما قد يحصل إن وصل إلينا مؤيدو النظام من القرى المجاورة. تلاشت رائحة الكوليات، وتغيرت رائحة الحافلة، ودخلت رائحة المطر. حتى من كان يتقيئ أحس بالراحة بعد دخول الهواء النظيف.
صعد السائق إلى الباص وهو يمسح يديه بقطعة قماش، نظر بسرعة إلى الممر حيث يستقر الأطفال، وجلس في مقعده وانطلق على ذلك الطريق المظلم الذي اختفت على مساره جميع أنوار القافلة التي سبقتنا.
بدت الحيرة واضحة على السائق وعلمنا أنه ضلّ الطريق، وسلك مسلكاً مختلفاً عن القافلة، لكنه استمر بالسير إلى أن وصل إلى تقاطع عريض تتوسطه غرفة اسمنتية يعلوها ضوء أحمر ساطع، خرج فوراً منها مسلحون، في حين انتشر عناصر على مفارق التقاطع. كان علم النظام يرفرف على الرصيف المقابل. حاجز للنظام، أشار إلينا بالتوقف مباشرة وانتشروا حولنا. صاح بنا أحد الركاب بصوت عال قلق، بأن جهزوا أسلحتكم، فقد ضللنا الطريق وقد ندخل باشتباك مع عناصر النظام إن حاولوا إيذائنا. سألتني زوجتي المستيقظة للتو عما يحصل، فقلت لها “تفتيش روتيني”. كانت أخطر لحظة، من أصل 13 ساعة، من التعب المتواصل.
حمل عناصر النظام أسلحتهم وبدأوا يتجولون حول الحافلة، ومنهم من كان يتجمع بعيداً وهو ينظر إلينا. انتشر الخوف بيننا، وخشينا أن ندخل في معركة لن تتجاوز الدقيقة الواحدة، فنحن هدف في المنتصف، ولا يوجد ما يقينا الرصاص، ولا نحمل ذخيرة كافية.
ابتعد سائق الحافلة مع بعض العناصر، وكان ينظر إلينا من بعيد، ويشير بيديه. فهمنا أنه يشرح لهم عن تعطل الحافلة، وضلالنا الطريق. اقترب العناصر من النوافذ.. نظروا إلينا، وعاودوا الابتعاد. لم يسئ أحد إلينا، لكننا خشينا من حدوث مفاجئة ما. حاولت تمالك أعصابي، عندما رأيتهم يبتعدون عن الحافلة، ربما استعداداً لإطلاق النار. خيّم الصمت.. وبدأ أحد العناصر بالتواصل عبر اللاسلكي لشرح الموقف لجهة ما. ثم خرجت سيارتان من الحاجز، واحدة سوداء عليها رشاش، والأخرى بيضاء تسمى الكبش. شعرنا بزيادة عدد العناصر الذين يطوقون الحافلة. كنت أتلمس مسدسي، الذي قد لن يعينني على الصمود لثوانٍ أمام هؤلاء المدججين أمامي. حاولت تبادل الحديث مع زوجتي، كي لا تفهم الموقف فهي لم تستعد توازنها بعدما تقيأت لمرات خلال الرحلة. الشاب الذي يجلس أمامي، وأنهكني طوال الرحلة باتكائه على رجلي خلال نومه، استيقظ وأخبر زوجته بما يحصل، فدب القلق والخوف عليها. كان يتساءل باستمرار إن كنا لوحدنا، أم برفقتنا حافلات أخرى.
لمع ضوء سيارة من خلف الحافلة، وبدأ يشتد. كانت السيارة السوداء ولحقتها السيارة البيضاء التي توقفت بين ساترين ترابيين. تحدث ركاب السيارة السوداء مع عناصر الحاجز، يبدو أنهم حصلوا على الإذن بإرشادنا إلى الطريق، وانطلقت السيارة السوداء وأشارت لنا أن نتبعها وكانت الغمازات الحمراء ترشدنا للسير خلفها. المسافة معها كانت تزداد وتنقص. لم نكن متأكدين أنها ترشدنا، وخشينا أن تقودنا إلى جهة ما قد يتم فيها اعتقالنا أو إيذائنا. كنا نسأل السائق أين وصلنا، وكان يكتفي بالقول بخوف “بعد طرطوس”. عبرنا حاجزين برفقة السيارة السوداء، أوقفنا أحدهما لثوان، تحدث فيها مع عناصر السيارة السوداء، وتابعنا المسير. لم نكن نشعر بشيء، وكل تفكيرنا انصب على وجهة السيارة السوداء.
أنظار الركاب تعلقت بغمازات السيارة السوداء، ونسينا النظر إلى الشوارع. اختفت السيارة السوداء، ولم نعلم أين ذهبت، في حين وتابعت حافلتنا مسيرها. كنت أظن أن السيارة سبقتنا بمسافة طويلة أو أنها أطفأت أنوارها. الشاب الذي طلب منا تجهيز أسلحتنا وقف إلى جانب السائق، وسلاحه بيده، وهو يتابع الأحداث، وفجأة صاح “الحمد لله عالسلامة يا شباب دخلنا المحرر ووصلنا قلعة المضيق”.
كانت لحظة مختلفة، وكأنه يوم القيامة وأننا أوتينا كتابنا بيميننا، فالفرحة عمت وجوه الجميع وبدأ الدم يتحرك في عروقنا. أكاد أجزم أنني كنت أسعد الركاب، كما أجزم أن جميع من عرف أننا تهنا شعر بذلك. همست في إذن زوجتي أننا كنا تائهين وضحكت، فنظرت باستغراب وضحكت وهي تعلم أننا دخلنا المحرر.
توقف الباص فجأة وصعد إليه شخصان يصيح أحدهما قبل ان نراه “أهلا بأهل الغوطة أهلا، أهلا باهل الشام أهلا، رايتكم بيضاء، الرسول هاجر”، وكان يكررها باستمرار. بدأت دموعي تنهال. حاولت ألا أتلفت حولي كي لا يراني أحد. كان بكاء زوجتي أقوى من أن تحبسه. حاولت مواساتها والدموع تغرق عيناي. لم أقوَ على الكلام. فقد انتهت الحكاية ودخلنا في مرحلة جديدة.
بدأ الرجلان بإعطاء لقاحات فموية للأطفال، وهما يرحبان بنا ويكرران نفس العبارات. نزل الرجلان وصعد عنصران من الهلال الأحمر وقاموا بتوزيع التفاح والبرتقال. لم اذكر متى كانت آخر مرة شاهدت فيها تفاحاً وبرتقالاً؟ وزعا البسكويت على الأطفال والسندويش والماء على الكبار، وصعد غيرهم ووزعوا وجبات من الطعام. لم تكن حاجتنا للطعام كحاجتنا لقضاء حاجتنا الشخصية. الساعة الرابعة فجراً، ومضى على رحلتنا 16 ساعة.
كنت أتوق للمشي، فقد أنهكني الجلوس والتنقل بين المقعد وأرض الحافلة، كما أنهكتني طفلتي المريضة التي كنت أتناوب على حملها مع زوجتي. كانت طفلتي تسألني طوال الطريق عن البحر، وكنت أعدها أن نصل إلى البحر، وعندما وصلنا المُحرر أخبرتها أننا وصلنا. ففاجأتني بسؤالها أين البحر؟ فقلت لها وأنا أضحك “أهل إدلب لم يملؤوه بعد”.
دخلت الحافلة إلى ساحة كبيرة تجمعت فيها عشرات العائلات التي نزلت من الحافلات التي سبقتنا، وبدأ بعض الأشخاص يصعدون إلى حافلتنا ليرحبوا بنا ويوزعوا علينا بعض المأكولات وغيرها. لم أكترث بهم وجل ما أردته هو النزول، وكذلك فعل غيري. لم نستوعب بعد ما الذي حصل خلال الرحلة لكن سعادتنا كانت كبيرة أننا وصلنا بسلام ولن نفكر في اللحظة الحالية بالطعام والشراب.
كانت تأتي سيارات وحافلات جديدة لتنقل الأهالي إلى مختلف مناطق محافظة إدلب، بالإضافة إلى قدوم بعض المدنيين لاستقبالهم. كان الترحيب بنا لافتاً وغير متوقع. وفور وصولي نسيت جميع من طلب مني التواصل معه، حتى أنني نسيت التواصل مع أصدقائي في فرق الإسعاف والدفاع المدني.
نزلت من الحافلة لأجد أمامي صديقي الذي ينتظرني، وهو قلق جداً. أول مرة ألتقي به شخصياً، عانقته بحرارة وقلت له: “لم أتوقع أن نلتقي بهذا الحال.. راحت الغوطة”.