كان ثمة شبح يخيّم في رأسي، اسمه قاسم سليماني. أكتب بداية كسوري يُفترض به نظرياً أن يتلقى خبر مقتله كحدث لا يمسّه مباشرة، كتصعيد بين واشنطن وإيران في العراق وربما الخليج. لكنني لست من استدعى سليماني إلى رأسه، هو من حشر نفسه عنوة فيه، وفعل المثل بملايين رؤوس السوريين بينما كانت تتوالى أخبار تحركاته مع الميليشيات التابعة له في مختلف أنحاء سوريا مخلّفة الإبادة والدمار.
في أواخر ربيع 2011 كنا مجموعة صغيرة تقلّب الفيديوهات الآتية من جسر الشغور، حيث كان الأهالي يتظاهرون ضد بشار الأسد. استوقفتنا آنذاك المواجهة الصامتة بين المتظاهرين والسدّ المسلّح الذي يقف في مواجهتهم، كنا نعيد التسجيل بطيئاً، ونكرر التوقف عند سحنات أولئك المسلحين وردود أفعالهم على هتافات المتظاهرين. لم يكن ذلك السد المسلّح من مخابرات الأسد أو شبيحته، صار ذلك مؤكداً بسبب سحناتهم وتعابير أوجههم التي لا تتفاعل سلباً “وبالتأكيد لا تتفاعل إيجاباً” مع الهتافات. إنهم إيرانيون؛ كنا أكثر من جازمين في استنتاجنا هذا، ولم نكن سعيدين به لأنه يعِد بمواجهة لا نتمناها.
باكراً جداً، عندما كان الرصاص الوحيد الذي يُطلق يأتي من بنادق ورشاشات مخابرات الأسد وشبيحته، شاعت بين السوريين أخبار مجيء قاسم سليماني وإشرافه المباشر على إعادة هيكلة القوات المكلّفة بحماية بشار الأسد شخصياً. تلك الأخبار لا علاقة لها بما سيُشار إليه كصراع شيعي-سني في المنطقة، يجد له ساحة في سوريا، ففي ذلك الوقت كان الطرف “السني” يبذل جهوداً ودودة لإقناع بشار بإجراء بعض الإصلاحات لامتصاص النقمة. في ما بعد ستأتي الأخبار من الإعلام الإيراني، لتكشف عن انتصار رأي سليماني الذي قرر مبكراً “بدعم من المرشد” التدخل لإنقاذ بشار، عندما كان بعض المسؤولين الآخرين يفكرون في فرضية استبداله.
أيضاً كنا نعلم، أبكر بكثير من إعلانه عن تدخله، أن تدخل ميليشيات حزب الله في سوريا لا يأتي إلا بتنسيق وثيق مع طهران، بما فيه التنسيق الميداني. سيكشف سليماني في شهر تشرين الأول الماضي أنه كان قائداً ميدانياً في حرب تموز 2006، لأن مثل هذه المشاركة ترفع من أسهمه في سوق الممانعة، أما التأويل الأوسع فسيتولى موقع المرشد خامنئي تقديمه، إذ اعتبر “نصر” تموز بمثابة هندسة جديدة للمنطقة تلبي المصالح التوسعية الإيرانية. لا حاجة للقول أن سليماني لم يستأذن اللبنانيين ليقود معركة في أرضهم، وأننا قد لا نحظى قريباً برواية دقيقة كاملة عن دوره كقائد ميداني في سوريا، رغم أنه وحليفه اللبناني كانا يسوّقان رواية قتالهما “اليهود” فيها.
تتضارب الأنباء حول تفاصيل مقتل سليماني، وما إذا كان وقت مقتله قادماً من لبنان أو سوريا! الحاج، كما يلقَّب أحياناً، يتنقل بحكم عمله الدموي بين هذه الدول التي صرّح أكثر من مسؤول إيراني بأنها صارت تابعة لحكم الملالي، أما استخدام مطار بغداد الدولي ليسافر منه وإليه فهو بمثابة استخدام مطار داخلي إيراني ليس إلا. وكالة “إرنا” الإيرانية أعلنت عن قدوم القتيل من لبنان، وبات معروفاً أن برفقته نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، مع التذكير بوجود ثورة في لبنان وأخرى في العراق، ودور الرجلين البارز في مسلسل القتل الذي يلاقيه نشطاء عراقيون، وبالتكهنات التي سبقت مقتلهما عن نية لتصعيد الحل الأمني في لبنان. هذا مسلسل من بطولة سليماني، كنا شهدنا حلقاته الأكثر دموية كسوريين، أو وفق دورنا الذي كان يُروّج له، مرة كأنصار لمعاوية وقتلة ليزيد وأخرى كـ”يهود” يمر من فوق جثثهم طريقه المزعوم إلى القدس.
صحيح أن سيرة سليماني فيها محطات بارزة عديدة، إلا أن “نجمه الذي يخصنا” سطع بعد انطلاق الثورة السورية، ليظهر لاحقاً في اليمن، ثم في العراق، وربما لم يسعفه القدر لنرى “بركاته” على لبنان. وأن يبرز اسمه مع ثورات الشعوب، وعلى الضد من تطلعاتها، فهذا وحده كافٍ لوصف الرجل، مع التنويه بوقوفه يوماً ما ضد الرئيس محمد خاتمي الذي كان يُعدّ الوجه المنفتح لحكم الملالي، بل توقيعه مع آخرين على ما يعتبر إنذاراً للرئيس. لا ننسى أيضاً ما يُنسب له من دور مع قادة الحرس الثوري في قمع أكثر من انتفاضة إيرانية، ووجوده بين أولئك القادة له مدلول خاص عطفاً على اعتباره الابن المدلل للمرشد، والوحيد الذي نال منه تكريماً على أعلى مستوى، فوق ما يُقال عن تمتعه بالقدرة على الإنفاق المالي لصالح فيلقه دونما حساب.
كنا نستحق رؤية سليماني في قفص العدالة، كي نطلع على الحقائق والأدوار التي لعبها وذهب ضحيتها عشرات أو مئات الآلاف من أبناء المنطقة. ذلك لم يعد متاحاً، لا بسبب مقتله فحسب، وإنما أيضاً بسبب ما جرت عليه العادة من غياب العدالة في منطقتنا. موقع سليماني نفسه، الموقع الذي يدركه هو تماماً، يجعل منه قاتلاً أو مقتولاً، إذ اختار لنفسه منذ البداية أن يكون محارباً على النحو الذي كان عليه. كان المرشد يطلق عليه لقب “الشهيد الحي”، وأغلب الظن أنه كان سعيداً باللقب، وربما عن إخلاص كان يتمنى موته قتلاً كما حصل، أقلّه هذا قدر أرحم له من المثول أمام عدالة قاتلَ كي لا تتحقق من أجل الآخرين.
سيكون من السهولة تذكيرنا، إذا نسينا، بأن سليماني هو فرد ضمن منظومة لن تكف عن عملها، بل قد تنتقم بوحشية. وسيكون من السهل تذكيرنا، وكأننا لا نعلم، بأن آخر ما تكترث به واشنطن هي مصالح شعوب المنطقة، وبأنها لم تتحرك إلا عندما بدأت أذرع قاسم سليماني بتهديد مصالحها والتوعد بالمزيد. لكن من السهل أيضاً التذكير بأن سليماني كان ذلك الفرد الذي أنفق الكثير من الجهد، وأُنفق عليه الكثير منه، من أجل الظهور كواجهة استثنائية لمشروع لا يعرف الكلل أو الخسارة. من السهل التذكير بأن اغتياله كان خطاً أحمر أمريكياً، قبل أن يكون كذلك إيرانياً، وبأن المخابرات الأمريكية منعت من قبل محاولتي اغتيال بسبب وجوده مع آخرين مُستهدفين.
لن ننسى بالتأكيد أن ميليشيات سليماني كانت تعمل ضمن ما ترضى عنه واشنطن، أو لا يثير غضبها، وأنه هو الذي خرج عن السيناريو المعمول به لسنوات طويلة. لقد دفعنا غالياً ثمن التفاهم غير الصريح بين الطرفين، وقد نشارك في دفع ثمن صراعهما؛ ذلك قد يصحّ أكثر على غير السوريين، السوريين الذين كان لسليماني يد طولى في ألا يبقى لديهم ما يخسرونه.