“أنا انمسكت!.. نحن في مكان يشبه سُجون بشار الأسد، ولا ندري متى نخرج”، بهذه الكلمات مِنْ داخِل أحد مراكز احتجاز اللاجئين في صربيا حاول الشاب محمد حاج سليمان إيصال صورة ما يجري. كان من الصعب استخلاص معلومات من كلامه الحافل بالانفعالات والشتائم، فقد وَجدَ نفسه “معتقلاً” بعد أن ألقت الشرطة القبض عليه في أحد بيوت السكن الشبابي في العاصمة بلغراد، وسَاقتهُ مع آخرين ضمن حملة تستهدف كلّ لاجىء يعيش خارج المخيمات سواءً أكان يحمل تصريحاً رسمياً أم لا.
وجاءت هذه الحملة إثر حالة الاستنفار والهلع التي تعيشها أوروبا بعد انتشار وباء كورونا، واتخاذ إجراءات غير منسّقة في هذا الإطار. فبينما اكتفت بعض البلدان بإغلاق حدودها وحظر التجوّل للجميع، ركّزت أخرى على اللاجئين – دون غيرهم – كما هو الحال في دول منطقة البلقان؛ بوابة الوصول إلى أوروبا الغربية بالنسبة لمعظم طالبي اللجوء.
وسبق أن اعتاد العابرون تحاشي المرور بصربيا قدر الإمكان، نظراً لسمعتها السيئة في التعامل مع “الأجانب”، لكن ومع تضاؤل الخيارات لم يعُد هناك ما هو مُستبعَد التجريب، لذا فقد سلكَ الشاب الإدلبي محمد حاج سليمان هذا الطريق، أملاً في حياة كريمة ومستقرة، ولو بعد حين.
“ليش حتى يحبِسونا وسط القذارة؟ بدهم يحمونا من الكورونا؟ أو مفكريننا نحنا مصدره؟ هالمكان مو للبشر. مكدّسين فوق بعض، وما منقدر نطلع حتى لنقضي حاجة!”، يتابع الشاب السوري شارحاً بعض التفاصيل عبر تسجيلات صوتية قليلة استطاع إرسالها الأربعاء قبل أن ينقطع التواصل معه.
وأمضى “سليمان” نحو شهرين في صربيا، قام خلالها بمحاولات للعبور إلى النمسا (عبر هنغاريا ورومانيا وكرواتيا)، غير أنّه فشِلَ في ذلك نتيجة تشديد الإجراءات الحدودية مؤخراً، والتي تجلّت بتدعيم السّور بالمزيد من الأسلاك الشائكة و”الحسّاسات” والكاميرات، وتحليق طائرات “درون” ومروحيّات للمراقبة، ونشْر قوات إضافية لا تتوانى عن استخدام العنف (الضرب المبرّح) وسرقة مال وموبايلات المهاجرين، فضلاً عن تحوّل السكان المحليين للعديد من دول البلقان إلى “حائط صَدّ” آخر، فقد باتَ هاجس “الكورونا” مُحرّكاً لعدائيتهم المتزايدة تجاه “الغرباء”.
وخلال الأيام الماضية عاش اللاجئون في العاصمة الصربية حالة ذعر، حيث خلت الشوارع تقريباً من المارّة -إلّا من عناصر الجيش- بالتزامن مع أنباء عن إنشاء “مراكز احتجاز” للمهاجرين، وتنفيذ مداهمات لبيوت السكن الشبابي (الهوستل)، وهي “عمليات” وصَفها لاجىء سوري آخر تمّ القبض عليه ب”الممارسات المخابراتية المشابهة لاقتحامات الشبيحة للمنازل في بلادنا”، مضيفاً أنّ “الشرطة اقتادته مع أصدقائه من منزلهم ببلغراد، ولم تترك لهم فرصة لحمل أي أغراض شخصية”.
ودفعت هذه التطورات ببعض طالبي اللجوء إلى محاولة تدارك الموقف (خصوصاً اليائسين من متابعة الرحلة) فقدّموا طلبات لدى إحدى المنظمات ل”العودة الطوعية” إلى بلدانهم الأم، حسبما أكدت مصادر لـ “المدن”.
وليأس واستسلام المهاجرين أسباب إضافية، منها ابتزازهم من قبل مهربي البشر، فعلى سبيل المثال وصلت تكاليف التهريب إلى النمسا إلى نحو خمسة آلاف يورو تُدفع على مرحلتين (قبل بلوغ الهدف) وهو ما يضع اللاجىء أمام احتمال خسارة الجزء الأكبر من مُدخراته، بلا نتيجة.
ومن ناحية ثانية وفي الأحوال العادية، تشكّل أوضاع الكثير من مخيمات اللجوء في البلقان عامل تحطيم معنوي، إذ أنها تفتقد لمقومات الحياة الإنسانية. لذلك يختار قسم كبير من اللاجئين أماكن أخرى للسكن المؤقت حتى ولو كانت خرائب (بيوت مهجورة).
يتحدّث السوري عبد السلام بشيءٍ من التعجّب والاستهجان عن نظرة السلطات البوسنيّة والمنظمات فيها للاجئين قائلاً: “يخافون منا ويَتوهّمون أننا سبب الأوبئة، فيرسلوننا إلى أماكن قذرة تؤدي للمَرض!”، علماً أنه تحاشى الذهاب إلى مخيّم “حتى في أقسى الظروف.”وعقِبَ الاستنفار الأوروبي بمواجهة “الكورونا” اتخذت البوسنة مجموعة خطوات لتعقيم المخيمات والعناية بنظافتها، وأُغلِقَ بعضها أمام حركة اللاجئين.
وقبل أيام جرتْ عملية مداهمة لبعض “الفنادق” وبيوت السكن الشبابي في منطقة “بشارشيا” بالعاصمة سراييفو، للقبض على المهاجرين الذين لا يحملون أوراقاً ثبوتية وتصاريح إقامة. ويُعتبر هذا البلد أكثر تسامحاً مع اللاجئين قياساً ببقية دول البلقان، إلا أن بوادر التغيير بدأت تظهر مع انتشار الخوف من الوباء، وأصبح الحذر يشوبُ التعامل مع “الأجانب” في الأماكن العامة.وفي كوسوفو، وُضع اللاجئون المقيمون في مخيم قرب العاصمة “بريشتينا” تحت المراقبة، وقيدت السلطات تحركاتهم، بعد صدور تعليمات جديدة بهذا الشأن. ويأمل الشاب الفلسطيني-السوري الجنسية عمر أ. أن لا تطول هذه “الأوضاع الاستثنائية” كي يكمل رحلته نحو أوروبا الغربية.
وكان عمر قد أخفق في الخروج من صربيا بعد 14 محاولة، ليقرّر العودة إلى كوسوفو والبقاء في هذا المخيّم، بانتظار اللحظة المناسبة لتجريب طرق جديدة.
وبالنسبة للشاب الفلسطيني-السوري وأقرانه من طالبي اللجوء عابري البلقان، فإنّ عاملي الزمن والمال يبقيان أساسيّين لحسم خيارات المواصلة أو العودة إلى اليونان، إذا ما استُنفذت الفرص. أما مخاطر “كورونا” وإجراءاتها فإن حساباتها تبقى ثانوية بالنسبة للهاربين من بلاد السجون والمُعتقلات والموت البطيء والسريع.