كنت أصلح عجلةَ سيدةٍ المانية نقُبتْ، وجدتها تجرّ دراجتها عابرة أمام البيت الذي أسكنه، فتطوعتُ لإصلاحها فوافقتْ، وهناك ثلاثة احتمالات لفعلي: الأول هو المروءة، الثاني هو إثارة إعجاب الألمان بخطاب حضارة المائدة، والدعوة للشخصية السورية، الثالث هو حذف الإجابتين السابقتين وترك الجواب للجمهور.
سمعتُ صوت جرس الباب، فتحته فانفرج عن سيدة ألمانية أخرى، لها وجه حزين تجاهد لإصلاح حزنه بابتسامة تنوء بها أعصاب وجهها. كانت تحمل على يديها صحفة، حيّتني، فرددتُ التحية بأحسن منها، عرّفتْ بنفسها، إنها زوجة السيد شميدت جاري في نادي القوارب، علمتْ أنني سوري وافد فسعت إلى زيارتي، وأحضرت هذه الهدية، وكانت قرصاً من الخبز الألماني المنفوش، المحلىّ بالفواكه، والذي يطلقون عليه اسم “الكوخن”، وله اسم شهير هو الكاتوه، فرحبتُ بها وأخبرتها إنها شرّفتني بالزيارة. ودّعتُ صاحبة الدراجة المعطوبة بعد أن أصلحتها، ودعوتُ فراو شميت للدخول فجلست، وكانت ما تزال حزينة وتجاهد لإصلاح حزنها الثقيل الذي عجزت الابتسامة عن تحريره، قالت إنها عاشت في سوريا ثلاث سنوات، مع ابنها المهندس في بلدة الرستن، كانت تزور حماة وحمص، وأخبرتني أنها أحبّت سوريا، وقالت كلاما لم أفهمه، ما فهمته أنها أحبّت المرأة السورية، ووصفتها بأنها امرأة ماهرة ورقيقة زوجاً، محبّة لأولادها أمّاً، وإنها حزينة لما يجري في سوريا، وسألتني عن السبيل الذي سلكته حتى بلغت مجمع البحرين في المانيا، وما إذا كنت فقدت ضحايا أو رهائن من أهلي، ورأيت عينيها تنبجسان بدمعتين صعبتين وكأنها تنسلان من صخرة بعصا موسى الكريمة، وقدّرتُ عمرها في العقد السادس.
بقيت دمعتاها تشعان في وجداني مثل حبتين من الألماس، تمنيت لو قدرت أن أحتفظ بهما في قارورة
لم تمكث طويلاً، وكانت تحمل معها كتاباً في المائدة السورية بالعربية، قالت إنها أحضرته من سوريا، وأرتني قصائد الكتاب المكتوبة بالنيران والبهارات للمعدة، فسألتها إن كانت تفهم العربية، فقالت إن الصور تغني عن الشرح، وهي تعدُّ منها وجبات، وأعطتني عنوانها، ودعتني لزيارة بيتها مع العائلة، وقالت إنها ستسرُّ بالزيارة، وعادت أقل حزناً، وعلى الباب أخبرتني أنها أحبَّت الشعب السوري. فقلت لها أنها لو عاشرت الشعب السوري قبل خمسين سنة لعشقته. لقد تغيّر كثيراً، وغيّر جلده والفؤاد، لكن ما زال به قبضة من أثر الرسول. الآثار تقول إن الشام بلاد مباركة. وإنها أرض المحشر والمنشر.
غادرت شميت، وبقيت دمعتاها تشعان في وجداني مثل حبتين من الألماس، تمنيت لو قدرت أن أحتفظ بهما في قارورة، وقررت أن أدعوها وزوجها إلى وليمة شامية شكراً لزيارتها، أخبرتُ زوجها بالدعوة، فقال كلاما لم أفهمه، ستكون الدعوة يوم الأحد القادم، وشمّرتُ ساعد الجد و استبسلت مع العائلة كلها في تدبيج الوجبات السورية في ليلة الأحد، وفي ظهيرة الأحد مددنا الطاولة، والطاولات الألمانية تكبر وتتسع بهندسة خفية ومعروفة مثل ذيل الطاووس، فتطاولت إلى طاولة تنس، سطّرنا آنية وقوارير عليها ما لذَّ وطاب، ووقفت بعد يوم وليلة من الطبخ، أنظر إلى صفوف الطعام، ورأيت أولها عندي وآخرها في منابت الزيتون، وقد حققت المائدة الوحدة الوطنية بين أطعمة الأقاليم، وكتبتُ الدستور السوري على النار بالمأكولات، يتوسط الصحائف قصعة فيها أُحدٌ صغير من الرز، وأُحدٌ جبلٌ يبحنا ونحبه، في أعلاه قطع اللحم التي ترمي بسهام الرائحة، سلقت حيناً من الدهر على النار حتى سكرت ونسيت خلقها، ثم قليت بالزيت حتى تحولت إلى فاكهة حيوانية. مفاجآت كامنة في ورق العنب، وأخرى في ورق الملفوف، وثالثة في دبابات الكبة، وقلت في نفسي: المائدة ثاني أطول سور القرآن الكريم، وقوم عيسى طلبوا من السيد المسيح مائدة من السماء تكون لأولهم عيداً ولآخرهم، تفتح روما بالتتبيل.
ونزلتُ ودعوت شميت الذي يحضر كل أحد إلى النادي فاعتذر، فأخبرته بخبر الغداء غير الأخير على شرفه وشرف زوجته، فأخبرني أن زوجته لا تخرج من البيت إلا للطبيب، ولم تخرج إلا أمس لزيارتنا، فعدتُّ مكسور الخاطر، وكان عندي سيف خشبي للزينة، فامتشقته، وقررت أن أنصب حاجزاً في الشارع أدعو أي الماني عابر إلى مائدة الشعب السوري الكريم، فالطعام الذي أعدَّ كثير، ولن تسعه ثلاجة، ثم دعوت من وجدت من أعضاء النادي، فصعدوا واكلوا، وكانوا يأكلون ويخلطون الأطعمة على مذهبهم، فيمزجون المتبل بالرز، ويصبون المرق على صحيفة اللحم بعجين، ويمرغون اللحم بالحساء، ويقطعون قرص الكبة قطعاً بالشوكة والسكين على طريقة سايكس بيكو، كذلك يضلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء.
زرتُ السيدة شميت بعد أيام، ونسيت إخبارها عن الغداء غير الأخير، وجدتها وحيدة تسقي النباتات غير العطشى في حديقة دارتها، فتطوعت لمساعدتها فرحبت، وبقيت ساعة أساعدها في سقايتها من براميل بلاستيكية منصوبة تحت المزاريب، فالمياه غالية، ومياه الأمطار مجانية، وأخبرتني وهي تلاطف نباتاتها وتهمس في آذانها وتشدُّ من أزرها، أنَّ ابنها في أمريكا وابنتها في بريطانيا، وعرضت علي متاعاً من أمتعة الرياضة، مضارب تنس وكرة قدم، وزلاجات خلّفها ابنها، فاعتذرت، فلدي منها الكثير، ولا أحد يلعب معي، ولتبق ذكرى من ابنها، وكانت تجاهد في صناعة ابتسامة على وجهها الحزين، وأخرجت لي كتاب قصائد المائدة السورية وسألتني عن أحد الأطعمة، فترجمت ما استطعت بلغتي الركيكة مكوناتها وأكوانها، وكنت أحضرت لها كبّة مطهوة على المذهب الحلبي، فشكرتني، وأكلت واحدة وأبدت سرورها بطعمها الطيب حتى ازّينت لها الأرض وأتتْ زخرفها. وصرت أزورها على فترات متباعدة، وكانت زياراتي تشخصها الأطعمة، فإن طهونا طعاماً يُهدى، زرتها، وكان الطريق إلى دارتها يمرُّ بغابة جميلة، فأرى نفسي على خلاف الحكاية الشهيرة، ذئباً يزور جدته، وتمرُّ به ليلى ألمانية، فيذعر منها أن تلتهمه بشدة جمالها. كانت الغابة مليئة بالذئبات العابرات على دراجات أو راكضات للرياضة والافتراس. فاختبئ، لقد أمرنا ديننا الحنيف بأن لا نرمي أنفسنا إلى التهلكة.
وفي الزيارة غير الأخيرة، خطر لي أن أسأل السيدة ذات الماستين عن الحي الذي أقامت فيه إبّان إقامتها في سوريا، فسمّته لي، فشغّلت تطبيق “غوغل ارث”، وبحثت عن عنوان أم دمنة السوري القديم لاستعادة الذكريات، فلم أجد سوى الأطلال الدوارس، والرمح الرديني باكياً، أدركتْ يأسي، فوجدتها تذرف دمعتين صعبتين وكأنهما تنبجسان من عيني زرقاء اليمامة، وتمنيت لو احتفظت بدمعتيها في قارورة. كان الحي الذي أقامت فيه قد صار حطاماً. بحث غوغل بعيون الأقمار الصناعية العالية عن بيتي أيضاً، فلم يجده، كان قد صار أنقاضاً أيضاً.
عن صحيفة المدن الألكترونية