يبدو واضحاً أن النظام السوري يمر في أكثر مراحله حرجاً منذ اندلاع الثورة السورية، في العام 2011. وعلى مستوى نظير لذلك، فإنه يظهر كأنه فاقد للأدوات والخيارات البديلة التي يستطيع استخدامها لتجاوز أو تبديد ما يضغط عليه، مثلما كان يفعل ويفاجئ خصومه عادة منذ ذلك الوقت، عبر سلسلة من التحالفات والخيارات على لوحة العلاقات الإقليمية والدولية. هذه الأحوال الجديدة للنظام السوري تهدد في أكثر من وجه استقرار النظام السوري نفسه واستمراره.
أربعة تحولات استثنائية
جرت خلال الأشهر الثلاثة الماضية أحداث دراماتيكية محيطة بالمسألة السورية، كانت بمجموعها لغير مصلحة النظام السوري، وظهر بسرعة فائقة ترابطها في ما بينها، لتشكل حلقة كاملة من الضغوط على هذا النظام.
فقد أظهرت العقوبات الأميركية على النظام الإيراني فاعلية شديدة، كُشف معها مدى الهشاشة الفعلية للحليف الأكثر صميمية للنظام السوري. فبعدما كانت جميع المؤشرات تدل على أن النظام الإيراني سيدخل مرحلة انتعاش استثنائية، سياسياً واقتصادياً، بعد توقيعه الاتفاق النووي مع القوى الدولية، الذي وفر له أكثر من 100 مليار دولار وتطبيعاً مع تلك القوى الدولية، الأمر الذي كان يشير إلى أن النظام الإيراني سيشهد زخماً في دعمه حلفائه وأدواته الإقليمية، وبالذات النِظام السوري.
لكن ما لبثت الأمور أن انعكست تماماً، فقد اختف مليارات الدولارات في شبكة الفساد داخل الطبقة الحاكمة، وانسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ووضعت حزمة محكمة من العقوبات على النظام الإيراني، انسحبت معه العشرات من الشركات العالمية من هذه الدولة، وأعادت الدول حساباتها بشأن تطبيعها وعلاقتها مع النظام الإيراني. ما أدى إلى أن يدخل النظام الإيراني في أزمة داخلية شديدة ومفتوحة الأفق، أثرت بعمق في قدرته على دعم النظام السوري. إذ تقول التقارير الأخيرة إنه لم يمنح النظام السوري “نقطة نفط واحدة” خلال الشهر الأخير.
في الوقت ذاته، كانت روسيا تكتشف وتُغير خياراتها السورية. فقد بات واضحاً بأن الإستراتيجية الروسية مستجيبة تماماً لما تعتبره إسرائيل مساً بأمنها القومي، وأن الطرفين مُجمعان على أن التمدد الإيراني وهيمنته سيطيحان توجهات الطرفين، وأن النظام السوري بشكله الحالي سيُعزز تلك الهيمنة الإيرانية. لأجل ذلك، فإن روسيا صارت تخوض حملة إعادة بناء الوحدات العسكرية والأجهزة الأمنية السورية لمصلحتها، في حين واصلت إسرائيل حملات القصف على المواقع والمصالح الإيرانية في الداخل السوري.
بين الأمرين، دخل النظام السوري أزمة داخلية بالغة التعقيد، فُقدت معها المواد النفطية فجأة، وأصاب تضخم جديد واستثنائي المواد الأساسية والعملة السورية، تجاوزت الـ 20 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي. وما فاقم هذه المشكلات توضح ملامح الإستراتيجية الأميركية تجاه منطقة شرق الفرات. فبقاء جزء من القوات الأميركية في تلك المنطقة، منع التوافق التركي مع النظام السوري وحرمته من كتلة ضخمة من الموارد الاقتصادية الإستراتيجية من تلك المناطق.
أخيراً، فإن المجريات الإقليمية أثبتت أن الربيع العربي لم ينته بديناميكيته وقُدرته على إثارة تغيرات غير متوقعة. فما يحصل في الجزائر والسودان أثر في خطاب النظام السوري ودعايته، الذي كان يقول إن ما جرى في البلاد مُجرد “مؤامرة” ومواجهة للإرهاب.
خيارات ضيقة
في مواجهة كُل ذلك، لا يبدو أن كثيراً من الخيارات “الآمنة” مُتاحة للنظام السوري، بل إنه مُجبر على اتخاذ ما كان يعتبره مساً باستقراره طوال الفترة الماضية.
تقول الأنباء المُتطابقة إن روسيا نصحت النظام السوري بمفاوضة الإدارة الكردية في منطقة شرق الفرات، كي يحصل على مشتقات نفطية ومواد زراعية بطريقة آمنة، تُساعده على تفكيك جزء من أزمته الداخلية. فالطرف الروسي يرى بوضوح كيف أن إيران لا تستطيع أن تتجاوز أزمتها الخانقة لتستمر في دعم النظام السوري، كما كانت تفعل عادة.
المعضلة بالنسبة إلى النظام السوري هي إدراك الطرف الكردي حساسية وضع النظام وهشاشته، لذلك يرفع سقف خطابه في وجه هذا النظام، ويشترط عليه تنازلات ضخمة في سبيل التعاون معه، أقلها الاعتراف الرسمي ورُبما الدستوري، من قِبله بهذه الإدارة الكُردية ووضعها شبه الفيدرالي. وهو أمر يعتبره النظام السوري خياراً قاسياً، لأنه يعني عملياً تقاسم السلطة معه.
كذلك، ثمة قراءات تقول إن النظام السوري يمكن أن يعود إلى التوازن في ما لو عاد إلى الحضن العربي وتخلى عن ارتباطه التام بإيران. فالدول العربية، المركزية منها تحديداً، قد تقبل بتوفير مظلة ما للنظام تمنع الإطاحة القاسية به، لكن بشرط أن يتخذ موقفاً إستراتيجياً بشأن علاقته وارتباطه المُحكم بالإستراتيجية الإيرانية في المنطقة، وبشرط اجتراح عملية سياسية داخلية تستطيع أن تؤسس لسلام اجتماعي وسوري داخلي متين، تستعيد فيه الحياة الداخلية السورية شيئاً مما فقدته، على أن تبدأ معها عملية إعادة بناء المناطق المدمرة.
يواجه النظام السوري في هذا الاتجاه مُعضلتين. فهو يشعر بأن الاستغناء والقطيعة مع النظام الإيراني قد تُطيحه. فمستوى تدخّل النفوذ الإيراني وتغلغله في الأجهزة والمؤسسات السورية يتجاوز قدرة النظام السوري على القطيعة معه. كذلك، فإن موافقة النظام السوري على الشروط العربية ستعني تفكيك النظام السوري بشكله الحالي، ولو بعد حين.
أخيراً، فإن النظام السوري يملك خيار تغيير رؤيته إلى المسألة السورية بجذريتها، وأن يوافق القراءة الروسية، التي تقول إن الدخول في عملية سياسية ما، عبر اللجنة الدستورية أو غيرها من المبادرات، قد يحفظ للنظام السوري كثيراً من المكاسب والسلطات، مقابل تخليه عن بعض المواقع والسلطات الأقل أهمية وحيوية لمصلحة القوى السياسية السورية المعارضة.
يقارب النظام السوري هذا الخيار بكثير من الحذر، لأن شرطه الجوهري يعني فتح باب الانتخابات الحرة والحياة العامة وتقاسم المؤسسات. وهو ما قد يؤسس مستقبلاً لتفكيك موضوعي للنظام.
رستم محمود – عن ” اندبندنت عربية ” للاطلاع على الموضوع الأصلي ، اضغط هنا