التعفيش ..ق.ق لـ : عز الدين زكور
اقتحمت مجموعة من جيشنا الباسل على أحد المحاور في مخيّم اليرموك، بعد أُُعلن تطهيرها من كل بشريّ ناطق، أو أيّ حجر أساس سليم أو أبنية قائمة، كانت تريد هذه المجموعة أن تسرع في عمليّة تمشيط المنازل من أي براد أو غسالة إرهابيّة أو مكيّف تكفيري أو سرير سلفيّ جهادي، أو حتّى جرّة غاز مندثّة، قبل أن تسبقها مجموعة مؤازرة خلفها إلى هذا الفتح العظيم، وتقسّمت تلك المجموعة الفدائية إلى كتائب، كل واحدة منها يعمل على نوعيّة معيّنة من الأثاث المنزلي، كتيبة الغسّالات، كتيبة البرادات، كتيبة الأفران، كتيبة الأشياء التي بنصف عمرها، كتيبة الأشياء الجديدة، كتيبة الخردة العتيقة وأخيراً كتيبة لفرزها على حسب جرمها بين أثاث تلطّخت يديه بدماء السوريين، وأثاث لم تتلطّخ، وأثاث عميل لجهة خارجيّة وأثاث أجرى مصالحة، وأثاث متظاهر ومغرر به، كل هذه الكتائب بقيادة النقيب “بو وسام” الوكيل الحصري وغير الوحيد لسوق التعفيش.
وقف المجنّد “علي” على أنقاض طابقين، كُشفت واجهته الأماميّة كاملاً، إثر برميل متفجّر استهدف البناء بطريق الخطأ، فجأة أصاب “علي” رعشةً قوية ما كان ليقدر إن يتملّكها، وها هي ذا غرفة نوم نجا منها سريراً وخزانة، تمثل أمامه في الطابق العلويّ، وما زال في هذا الموقف يتبادر إليه صوت عشيقته بتسجيل صوتي في “وتس أب” تشي إليه بتعجيل شراء غرفة النوم ليتمّ الزواج الميمون في غرفة الضيعة، كل ما كان يفكّر فيه “علي” اللطيف الحالم بالزواج والاستقرار بعيد تسريحه من الخدمة، هو كيف سيمرر هذه الغرفة من أنظار النقيب “بو وسام” وهو الآخر عليه طلبيّة مستعجلة بتسعين غرفة نوم لسوق التعفيش، كان كل شيء في الشارع يراقب هذا المشهد الفظيع حجارة المنازل المدمّرة، سقف الطابق السابع الذي لم يبقَ إلا هو، بقايا كتب مزقتها الشظايا والصواريخ، صحن البث التلفزيونيّ الصدئ، شحاطة حمام نايلون عتيقة، كلها سهَت وتأثرت من هول الموقف.. أخيراً وجد مفتاح زواجه المبارك، أخيراً سيكون له بيتاً وعائلةً صغيرة، كم هي جميلة ورقيقة أحلام ذاك الجنديّ البطل، وما زال صوت سوسن (عشيقته وخطيبته) يصدح صداه الرقيق بعبارات “الغرفة الغرفة الغرفة”، “مَ تنسى مَ تنسى مَ تنسى”، “أيلا أيلا أيلا”، “قرررد قررد قررررد” موصية أيّاه ومكررة عليه فوالدها ضاق صبره ويريد أن يفسخ الخطوبة ويزوّجها لابن عمها المسرّح قبل شهرين، تجول بين الجدران المدمّرة وركام الأحياء، ترتطم الأصوات ببعضها بعضاً وتعود لـ”علي” المجنّد الكيوت الطموح.. كان إلى جانب الرياضة المفضّلة التي أحبّها جيشنا الباسل ألا وهي التعفيش، الحبّ وفوبيا الحنين والذكريات، والانتماء للأماكن، فمع كل قطعة إلكترونيّة يلهفها الجندي أو غسّالة يعفّشها، ذاكرة تضجّ بالشوق للمحبوبة والمستقبل الدافئ، تلك البيوت أمامك يتدلّى منها خرطوم غسالة عاديّة لطالمت حلمت بها أمّ “علي” وهي تدعك على يديها المنهكتين الألبسة، أو شرشف طفل صغير، ستائر معلّقة بشظيّة فتكت الحائط، سلة المهملات صارت كتلة بلاستيكيّة، كان كل شيء يشبه الحلم، الحلم في الاستقرار وتعفيش كل شيء. لحظات تقطع الأنفاس، وبدأ القلق يتسلل إلى قلب النقيب “بو وسام”، أقل من نصف ساعة وتصل الكتيبة المؤازرة بقيادة “بو ديبو” العميد الانتهازي البلهموطي، الذي يبلع ويسرق كل شيء ولا يشبع، ومازال هناك حيّيان صغيران أو ربما ثلاثة لم يعفّشوا والطلبيّة لم تكتمل (كانت منافسة الضباط فيما بينهم كبيرة جداً في التعامل مع أسواق التعفيش، وكل منهم يحرص على تسليم طبيته حسب الطلب والتوقيت المحدد).. الطّريق المؤدي إلى خارج المكان واحد وربّما يتسلط أحد الضباط الكبار على الحمل ويعفّشه من معفّشيه، كان على “بو وسام” أن يفكر أكثر من أيّ وقت مضى، هُناك خطر يقترب شيئاً فشيئاً وأحلام أكثر من 50 عنصراً تتلاشى أمام أعينهم، فجأة ظهر المجنّد “حازم” التابع لكتيبة الأشياء التي بنصف عمرها، بعد أن كان غاطساً في إحدى الأبنيّة التي حرص على تمشيطها إبرة إبرة حتى، وكان اقتراحه أن تدخل السيارات والشاحنات إلى الحيّ ويتم التعبئة بشكل فوريّ بدل فرزها وفحصها (أثبتت إحدى الدراسات لمركز أبحاث أمريكي، أنّ سبب موت عشرات العناصر بعبوة مزروعة في براد أو غسالة، تعود لاقتراح “حازم” للنقيب “بو وسام”) وبذلك تسرعت العمليّة وتمت بنجاح وسلّمت الطلبيّة بعناية وحرفيّة بالغة.
26 مايو/أيار 2018