لقاء أجراه كريستوف عياد مع الكاتبة جوستين أوجييه ، وقام بترجمة النص : بدرالدين عرودكي ( الباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة )
تواصل الكاتبة النضال ضد نسيان جرائم بشار الأسد مع كتابها “بضرب من معجزة“، صورة ياسين الحاج صالح، المثقف السوري المنفيّ في ألمانيا.
جوستين أوجييه
كان الكتاب السابق لجوستين أوجييه “عن الاضطرام De l’ardeur“ (آكت سود، 2017) صورةً للعالم العربي بما يطويه من الأفضل والأسوأ، عبر سورية والشخصية المضيئة للمحامية ولوجه الثورة السورية رزان زيتونة؛ أما كتابها الجديد (بضرب من معجزة) فهو صورة أوروبا، في كل ما يمكنها أن تطويه من الأسوأ والأفضل. يجري الحديث فيه خصوصًا عن ألمانيا، مكان لجوء مئات الآلاف من السوريين. بطل هذا العمل السوري الثاني هو ياسين الحاج صالح، مثقف منشق مرّ بسجون نظام الأسد. عبر نظرة هذا المنفيّ السياسيّ على أوروبا وعلى ألمانيا، التي يكتشفها، تتحدث جوستين أوجييه عنّا، وعن قيمنا، وعن تنازلاتنا.
بعد كتاب “عن الاضطرام”، هل كنتِ تفكرين أنك قادرة على الابتعاد من سورية والانتقال إلى شيء آخر؟
فكّرت بذلك قليلًا، وأدركت أن الأمر لم يكن ممكنًا. في أصل كتاب “عن الاضطرام” شعورٌ كان شديد القوة واستمر. شعور بالفضيحة في مواجهة سحق الثورة السورية وفي مواجهة اللامبالاة. لم أتعافَ من هذا السحق المزدوج. نحن اليوم بعد عشر سنوات من حدوث ذلك. بعد أن عرفت حجم الجرائم المقترفة، يبدو لي أن هذا النسيان وهذه الحصانة يقولان شيئًا ما عن حالة العالم.
هذه القصة تعنيني بوصفي فردًا، بوصفي أوروبية. حين علمتُ أن [المثقف المعارض لبشار الأسد] ياسين الحاج صالح، مع كل التاريخ الذي يحمله، كان قد استقرّ في برلين، في هذه المدينة ذات التاريخ الذي نعرفه، جسَّد َذلك هذا الشعور بكوني معنية. ولهذا السبب أيضًا أكتب. لكي أتذكر وأناضل ضد هذه المحاولات في السحق، في النسيان. النسيان هو إحدى كلمات عصرنا الكبيرة، ولكن مفهوم النتيجة، في النسيان، يتضرَّر، واللغة أيضًا تتضرَّر.
لماذا اللغة؟
حين تُلْفظُ الكلمات ولا تؤدّي إلى نتيجة، تفقد اللغة قدرتها على قول الواقع وعلى تغييره. ذلك شيء وعيته بفضل رزان زيتونة. بعد الهجمات الكيمياوية على الغوطة في عام 2013 التي كان الغربيون قد وضعوها بوصفها “خطًا أحمر“، كانت في المكان، وكانت توثّق، وتساعد في دفن الموتى في جوّ حافل بخوف رهيب. لكنها كانت تفعل ذلك وهي تؤمن بأن ثمة تدخلًا. لم يكن بوسعها أن تصدّق أنه إذا كانت هذه الكلمات قد لفظت، فلن يكون لها نتائج. وكان لا بدَّ لها من مرور أسابيع كي تفهم ذلك. في البداية، اعتبرتُ ذلك سذاجة ثم وجدتُ أنه شديد الجمال: ثمة هنا شيء ما من التذكير بما يجب.
ما هي خصوصية الدراما السورية؟ هل هي نهاية “لن يتكرر ذلك أبدًا” أم نهاية فكرة أنه، مع البراهين، لا يمكن للجرائم ضد الإنسانية أن تُقترف؟
دائمًا ما تكون الجرائم في ذاتها فريدة، وليس المقصود مقارنتها بمفردات الحدّة أو القسوة. خصوصية سورية تكمن في معرفة غير عادية بأن لدينا من هذه الجرائم. لقد قام السوريون بعمل توثيقي لا يصدق، لأن هذا النظام حرمهم من الذاكرة طوال العديد من السنوات. لم يكن من الممكن كتابة التاريخ، لأن النظام كان يريد أن يكون أبديًّا. آلاف مؤلفة من السوريين أنتجوا نصوصًا، وصورًا، وتسجيلات صوتية. كان هناك أيضًا صور قيصر [اسم المصور العسكري المكلف بتصوير الجثث الخارجة من مراكز التعذيب الذي نجح في مغادرة سورية مع عشرات آلاف الصور التي تبرهن على الإساءات التي اقترفها النظام]. يبدو لي من غير المعقول أن هذه الصور قد غمرت العالم، وأننا نفكر بشكل من أشكال التطبيع مع الأسد. ههنا إنما تقع خيانة العالم: فجأة، لم يعد لكل القيم التي زعمنا أن الاتحاد الأوروبي أسس عليها، مثلما لم يعد لشكلٍ ما من العالمية عند الخروج من الحرب العالمية الثانية، أي قيمة.
هل أثارت وفرة الصور ضربًا من التعب والقرف؟
هذه الطريقة شديدة المباشرة في إدراك الأحداث هي عرضُ من أعراض العصر. صور تطرد صورًا أخرى، وكلمات تطرد كلمات أخرى. نحن تمامًا في العاطفية المحضة، الذهول. لكن الذهول لا يفيد شيئًا، ولا يسهم في إعداد جواب أخلاقي وسياسي. سوى أن هذه الصور هي القاعدة التي تعتمد عليها كل محاولات العدالة في أوروبا بناء على مبدأ الاختصاص العالمي. مئات الأشخاص السوريين والأوروبيين يعملون على ألا يستمر الإفلات من العقاب. هذا قليل جدًا، وهذا هائل.
هل محاولات العدالة هذه هي شكل من التصحيح؟
العدالة هي دومًا أمرٌ نتابعه، إنها لا تكفي أبدًا للتصحيح. حين نرى في محكمة كوبلنز [ريناني ــ بلاتينا، ألمانيا] سوريين يشهدون أمام أنور رسلان، الذي كان يدير مركزًا للتعذيب والمتهم بالعنف الجنسي وبالقتل، فهذا اعتراف بما لم يكن يجب حصوله. لكن العدالة لا تتعلق بالماضي وحسب، إنها تتناول فكرة ما عن المستقبل.
ما الذي ينتجه هذا اللقاء بين هؤلاء المنفيين السوريين وألمانيا؟
هناك صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وخصوصًا في ألمانيا، الذي عرف انتقالات إلى العنف مكررة وشديدة الأهمية، لكن ثمة أيضًا أشياء في طريقها إلى أن تبتكر ذاتها، وكان لدي رغبة في الاهتمام بها. خصوصًا وجود مئات الألوف من السوريين، الذين ثاروا وأرادوا ابتكار طريقة جديدة في الحكم، اليوم هنا، في وسط أوروبا. إنهم يحملون إيمانًا بإمكانات مختلفة، مخيلة كاملة لم نعد نمتلكها.
هل يُحيي هؤلاء اللاجئون المثل الأعلى الثوري في أوروبا التي تبدو في طريق مسدود؟
الثورة هي قبل كلّ شيء أمرٌ شديد الحميمية. حين ننزل إلى الشارع، حين نسمع صوتها للمرة الأولى، لا نفقد هذه القوة، حتى بعد عشر سنوات، وإنْ أعدنا صنع حياتنا في أمكنة أخرى. وإلى هذا إنما كنت أرغب في العودة. إنه درسٌ عميق لنا، نحن الذين نعيش في واقع مسحوق. إنها قوة إلهام في أوروبانا المنغلقة ضمن حدودها وفي طريقتها في فهم العالم والهويات.
على أي مثقف أوروبي اليوم، وإنْ لم تكن سورية في قلب اهتماماته، أن يفكر بطريقة جديدة في سكن العالم، بألا يستسلم للانغلاق بفعل انطباع عن واقع محاصر. وهذا يمرّ، بالضرورة، عبر الانتباه إلى آلام الآخر، وإلى رفض هذه الفضيحة الهائلة التي هي احتقار بعض الحيوات.
تُقيمين مقارنة بين ياسين الحاج صالح (الشخصية الرئيسة في كتابك) والفيلسوفة حنة آرنت [1906ـ1975]. لماذا؟
بالنسبة إليه، يوجد في الطريقة التي يستحوذ بها اللاجئون على العالم، بمساعدة أرخبيل أصحاب الضمير، بوادر إعادة ابتكار السياسة. هذا شيء أؤمن به كثيرًا: وجهة نظر اللاجئ أساس، والعالم يحتاج إليها. حين جاء ياسين الحاج صالح إلى برلين، بحث عن أدوات من أجل أن يفهم على نحو أفضل المأساة السورية، والتقى فكر حنا آرنت التي صارت بطلته. قرأها كما لو أن فكرها كان موجَّهًا إليه. إنهما يشتركان في القدرة على متابعة محادثة في حدِّ ذاتها، وهي ضامنة سلوك أخلاقي، وفي مسألة النظر إلى الفعل السياسي في كل نبله.
خلال أعوامه الستة عشر التي قضاها في السجن، تخلص ياسين الحاج صالح مما تنطوي عليه الأيديولوجية من انغلاق ورفض المفاجأة. إنه شخص بنى نفسه بنفسه مع قراءاته. لديه طريقة في التفكير شديدة الفرادة، حرّة للغاية. إنه لا ينتمي إلى أي ضفة، وسيعثر على حنه آرنت هناك. كان خلال زمن طويل يحذر من مفهوم العالمية، لأنه كان يبدو له معتمدًا من الإمبريالية. لكنه اليوم يرى أن ثمة عالمية تنتظر بناءها من حول قيم أساس أدرك أهميتها في كيانه الحي.
نقد
على مقربة من إنسان ومن ألمه
إنها تتمة منطقية وطبيعية. كانت أول حكاية كتبتها حوستين أوجييه، عن الاضطرام تعمل على إعادة إحياء شخصية رزان زيتونة، وجه الثورة السورية، التي كان النظام يلاحقها، واختطفتها أخيرًا جماعة متمردة سلفية في المنطقة “المحررة” التي كانت قد وجدت فيها ملجأ لها. أما الحكاية الثانية، بضرب من معجزة، فهي تقصُّ نتائج سحق هذه الثورة: منفى الضحايا، وإفلات القتلة من العقاب، والبحث عن العدالة ومتابعة الثورة خارج الأسوار.
إنه ياسين الحاج صالح الذي يقيم الرابطة بين الاثنتين. هذا المثقف العصامي، الشيوعي السابق الذي قضى ستة عشر عامًا في سجون النظام قبل ثورة 2011، هو زوج سميرة الخليل، المناضلة من أجل حقوق الإنسان. سوى أن هذه الأخيرة كانت قد اختطفت في الوقت نفسه الذي اختطفت فيه رزان زيتونة مع رفيقيهما الآخريْن سيئي الحظ. لم يعثر على أي واحد من “رباعي الغوطة”، المكان الذي اختفوا فيه في ضواحي دمشق، حتى بعد استعادة هذه المنطقة من قبل النظام في نيسان/ أبريل 2018.
يقف بضرب من معجزة على مقربة من هذا الإنسان ومن ألمه. لكنه ألمٌ خصب يبحث، عبر اتصاله بأوروبا وتاريخها، عن طريق عالمية جديدة. يكتشف ياسين الحاج صالح، وقد صار لاجئًا في برلين، فكر حنه آرنت في الوقت الذي يعمل فيه سوريون آخرون، لاجئون مثله، عن وسائل ملاحقة سجّانيهم السابقين قضائيًّا. وعبرهم، إنما تتكلم جوستين أوجييه عنا وعن تخلّينا وعن نسياننا.