ليست تلك العبارة التي كتبتها صحيفة إكسبريس الأميركية التي تصدر عن الواشنطن بوست على الصفحة الأولى من عددها المطبوع الأخير وهي تودع قراءها بغير دلالة “نتمنى أن تستمتعوا بجوّالاتكم الحقيرة”.
هذا العداء الواضح ما بين النمط التقليدي للثقافة والأنماط الجديدة المطروحة في أسواق العالم، لم يعد خافياً على أحد. ولعله يعود إلى تزاحم على التأثير في الوعي العام، أو تنافس على الوصول إلى “الزبون”. من يدري؟ لكن الأكيد أن العالم تغير حقاً، بعد غزو الأجهزة الذكية للحياة العامة. وبعد أن أصبحت فكرة “الاستغناء” تهدد الجميع، ليس فقط الورق والمطابع، بل الإنسان ذاته.
فكرة الاستغناء فكرة رهيبة باتت كغيمة سوداء تسير مع الناس وفوق رؤوسهم، تخيّم على الروح، وتشعر أصحابها أنهم على وشك الجلوس على الرصيف، فالطريق باتت الآن مفتوحة لكائنات أخرى.
أما تلك الكائنات التي لا أرواح لها ولا أنفس، فتتفوق علينا اليوم بعقولها الإلكترونية وتلافيفها ومعالجاتها، تاركة آثارها على البيئة والتربية والتعليم والعلاقات الأسرية والصداقات والأخلاق والسياسة.
الحقول التي طردت الآلة منها الإنسان أكثر من أن تعد وتحصى، لكنها تتجسد جلية في البريد والطهي والمبيعات والعتالة وتحميل البضائع والزراعة والمختبرات وقيادة الشاحنات وفي مظاهر أخرى. ويبقى أخطرها الجهاز الذي يجثم بالقرب منك الآن عزيزي القارئ، المكتب المهني وغرفة المعيشة المتنقلة التي في هاتفك.
من دون ذلك النجاح التقني الذي حققه الإنسان ذاته، كان يشكو من قلة التواصل والوحشة والمشاق. ومع ذلك الإنجاز يشكو أيضاً ممّا صنعته يداه. صدق العقّاد في قصيدته المعتقة التي قال فيها عن الإنسان “صغيرٌ يطلب الكبرا، وشيخٌ ودّ لو صغرا. وخالٍ يشتهي عملاً، وذو عمل به ضَجِرا. ويشقى المرءُ منهزِماً، ولا يرتاح مُنتصراً. ويبغي المجدَ في لهفٍ، فإن يظفر به فتَرا. فهل حاروا مع الأقدار، أم هم حيروا القدرا؟”
لقد مضى ذلك الزمن الذي تجلس فيه الأسرة في سأم. وبدلاً من تبادل الحديث تتفجر بين أفرادها الإشكالات بسبب أو من غير سبب. ليس لأن الأسرة تماسكت. بل لأنها انشغلت عن بعضها البعض، كلٌّ في عالمه الذي يترحّل به إليه جوّاله الحقير.