ماذا لو أخبرتك أن الحكمة، تلك الفضيلة العتيقة التي طالما تغنينا بها، قد أصبحت اليوم أشبه بـلعنة خفية؟
نعم، لعنة في عالم يقدس السرعة والقرار الفوري.
عالمٌ لا يملك رفاهية التأمل، ولا يصبر على غربلة الأفكار وتمحيصها.
نحن نعيش في عصر لا يُكافئ التروي. بدلاً من ذلك، يُصفق للتسرّع ، ويُلجّ في اتخاذ الموقف قبل حتى أن يكتمل المشهد.
تأمل حولك: في كل زاوية، صراخٌ يطالب بالحسم، دفعٌ نحو الفعل. لا مجال للتوقف، للتنفس، للتساؤل: “ماذا لو؟” أو “كيف؟”.
أضحت المعلومات تُلقى كوابلٍ على رؤوسنا، لا لنتدبرها، وإنما لنستجيب لها فورًا، لنبدي رأيًا عاجلاً، لنتخذ موقفًا حاسمًا.
هذا الاندفاع يصير أشد وطأةً وأعمق أثرًا حين يمس القرارات السياسية، خاصة في رحم سلطة وليدة تسعى لتثبيت أركانها أو إثبات ذاتها.
هناك، غالبًا ما يُدفع باتجاه القرارات المتسرعة، ظنًا بأنها دليل على القوة والحزم، أو خوفًا من التراخي الذي قد يُفسر ضعفًا. هذه اللجاجة، التي تتجاهل عمق التبعات ومآلات الأفعال، قد تتحول إلى قنابل موقوتة تُهدد استقرار الكيان كله.
هنا، حيث الزمن يتسارع حتى يكاد يتلاشى، تتحول الحكمة، ببطئها ووزنها، إلى ثقل غريب على صدورنا.
إنها أصبحت كصوت الضمير الخافت في غرفة تعج بالصراخ، أو كبصيرة عميقة تُطمس ببريق الزيف.
هي عبء، لأنها تطلب منا ما لا يُطلب: الصبر في عالم لا يعرفه، العمق في زمن السطحية، والبصيرة في خضم ضباب الاندفاع.
فهل ما زلنا نملك ترف حمل هذا العبء؟
أم أننا قررنا التخلي عنه إلى الأبد، والرضوخ لإملاءات هذا العصر الذي يلهث خلف كل ما هو عاجل ومتسرع؟
لكن، هل يمكننا حقًا أن نستمر في الركض بلا وجهة، بلا بوصلة؟
هل يمكن أن يزدهر عالم يُكرّم التسرع فوق كل شيء، حتى لو كان الثمن هو فقدان البصيرة أو الوقوع في أخطاء فادحة؟ التحديات التي نواجهها اليوم، بكل تعقيداتها ودراماتها، لا يمكن حلها بـ “ومضة” عابرة أو “قرار” فوري متسرّع. إنها تتطلب عمقًا، فهمًا، وحكمة تراكمية تتجاوز ضجيج اللحظة والضغط لاتخاذ الموقف.
ربما حان الوقت لنعيد النظر في تعريف “العبء“.
فما نعتبره ثقلاً اليوم، قد يكون في الحقيقة مرساتنا الوحيدة في بحر الفوضى هذا. إن تبني الحكمة ليس تراجعًا إلى الوراء، إنه خطوة جريئة نحو الأمام. إنه دعوة لأن نتمرد على إملاءات التسرع، لنستعيد بعضاً من سيطرتنا على عقولنا وأرواحنا، قبل أن تبتلعنا دوامة الفورية واللجاجة.
لعل الحكمة لم تعد مجرد ترف، بل أصبحت أشد أنواع المقاومة في زمن يقدس السطحية والاستهلاك العاجل. مقاومة تتيح لنا أن نتنفس، أن نرى، وأن نفهم حقًا، بدلًا من مجرد الركض في سباق محموم نحو القرارات المتسرعة. فهل نجرؤ على حمل هذا “العبء” الثمين؟
حين يرضخ مثقف لإملاءات طائفته
وفي خضم هذا الصراع بين سطوة التسرع وقيمة الحكمة، تبرز مأساة أعمق حين يتعلق الأمر بالمثقف، ذاك الذي يفترض فيه أن يكون حارسًا للبصيرة وضميرًا للمجتمع. فحين يتحول المثقف من ضميرٍ يقظ إلى بوق طائفته، يصبح نسخة مشوهة من ذاته. يتخلى عن الفكر، ويستبدله بهذيان الولاء، حيث تذوب الحجج في حمى الانتماء، وتفقد اللغة وظيفتها كأداة فهم لتُستخدم في التحريض، والعزل، وترسيم الخنادق.
ينكسر صمت العقل، ليعلو ضجيج الجماعة، وتتورط النخب في مستنقع التفاهة، حتى تغدو الطائفة سقفًا للمعنى، ومقياسًا للحق، وسكينًا تُذبح به الحقيقة بدم بارد.