يريد دونالد ترامب أن يمنح سوريا “فرصة للعظمة”، لكن هجومه على المساعدات الخارجية الأميركية يهدد بتقويض أي تقدم تم تحقيقه.
في النقاش الشائك حول كيفية التعامل مع سوريا، برز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل مفاجئ كواقعي وبراغماتي ورجل ذو نظرة دقيقة. منذ الإطاحة في ديسمبر 2024 بنظام الديكتاتور السوري المدعوم روسياً، بشار أسد، يقود سوريا الآن تنظيم إسلامي متشدد. ومع ذلك، في مايو، تصدر ترامب المبادرة بإلغاء عقوبات عمرها سنوات، موضحاً أنه يريد منح السوريين طريقاً نحو التعافي الاقتصادي.
لكن، للأسف، هذا النهج البراغماتي المرتكز على الاستقرار هو نصف القصة فقط. قد يُعرّف إرث ترامب في سوريا ليس بتخفيف العقوبات ولا بإعادة العلاقات الدبلوماسية، بل بقرار اتُخذ في وقت سابق وأثره لا يزال يتردد في القطاع الإنساني السوري: التدمير الفوضوي لوكالة التنمية الدولية الأميركية (USAID).
قال ترامب لجمهور مندهش في الرياض بتاريخ 13 مايو: “سأصدر أمراً بوقف العقوبات على سوريا لكي أمنحهم فرصة للعظمة”. وحصل على تصفيق حار من الحضور. واستناداً إلى نداء شخصي من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، صافح ترامب زعيم سوريا الجديد، أحمد الشرع، القائد السابق لتنظيم القاعدة. سارت اللقاءات بشكل جيد، وبدا ترامب معجباً حقيقياً بالشرع: “رجل قوي، له ماضٍ صلب”، ثم تأمل قائلاً: “هل ستضع شخصًا مثاليًا بريئًا في هذا المنصب؟ لا أظن… إنها بيئة خطرة.“
عندما أُسقط نظام أسد الذي دام عقوداً على يد فصائل المعارضة بقيادة هئية تحرير الشام في أواخر 2024، كان من المفترض رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سوريا.
فقد اختفى النظام الذي فرضت العقوبات ضده، وكانت الحاجة لإزالتها أكثر إلحاحاً لأن سوريا أصبحت منهكة اقتصادياً لدرجة تهدد انهيار الدولة. لكن مخاوف واشنطن وحلفائها من خلفية الشرع المتشددة جعلتهم يحتفظون بالكثير من العقوبات، واستمر انهيار سوريا.
تغير كل شيء عندما سافر ترامب في مايو إلى المملكة العربية السعودية وطلب منه ولي العهد إعطاء السوريين فرصة. قال نعم، وفجأة تغير مستقبل سوريا. بدأت العقوبات الأميركية تُرفع تدريجياً، وتبعتها أوروبا بإلغاء قيودها الاقتصادية.
واصل ترامب الدفع بالملف السوري، وسلمه إلى صديقه في مجال العقارات وسفيره لدى أنقرة توماس باراك، الذي توجه بسرعة إلى دمشق لرفع العلم الأميركي، ويواصل دفع تطبيع العلاقات السورية الأميركية بسرعة فائقة. على عكس سياسة سوريا غير الفعالة في ولاية ترامب الأولى، حيث كان يُضلّل غالباً من قبل معاونيه، يبدو أن الإدارة الحالية متّحدة وتعمل بنسق واحد. وفي الأسبوع الماضي، أزال وزير الخارجية ماركو روبيو تصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية أجنبية.
تبني إدارة ترامب المتحمس لزعيم سوريا الجديد الجهادي سابقا ليس خالياً من الجدل أو المخاطر.
الشرع رجل يحمل الكثير من الأعباء، والتوترات الداخلية في سوريا شديدة القابلية للاشتعال، كما ظهر في مارس في أحداث الساحل . لكن يصعب تصور مسار آخر لا يزيد من مشاكل سوريا الداخلية.
ترامب لا يناقض العالم فقط، بل يناقض نفسه في سوريا
تستند السياسة الأميركية الجديدة إلى افتراض معقول بأن الشرع هو أفضل أمل لاستقرار سوريا، لأنه الخيار الوحيد المتاح. ويحتاج الاستقرار لتمكين ما تريده الولايات المتحدة في سوريا: إعادة الإعمار، عودة اللاجئين، التعاون في مكافحة الإرهاب وعدم انتشار الأسلحة، انسحاب عسكري أميركي سلس، وشكل من أشكال التهدئة مع إسرائيل.
إذاً، لمن يستحق الفضل؟
تحت حكم ترامب، استعادت الولايات المتحدة، على الأقل حالياً، روح البراغماتية وتحاول إنقاذ دولة عربية مهمة من الانهيار. سيكون الوضع أفضل في المنطقة إذا نجح.
لكن للمضي قدماً، يجب أن يتجاوز رهان ترامب على استقرار سوريا العقبات الهائلة التي خلقتها سياساته الأخرى.
بعد 14 عاماً من الصراع ، سوريا فقيرة ومنقسمة وتغلي بالاضطرابات. شهدت الحرب دماراً واسعاً في حلب، حمص، والرقة، حيث حُولت أجزاء كبيرة إلى ركام بفعل القصف والغارات الجوية، ولم يشهد إعادة إعمار حقيقية حتى اليوم. شبكة الكهرباء توفر ساعات قليلة من الكهرباء يومياً، والبنية التحتية تنهار. تزداد التلوث وتدهور التربة وإزالة الغابات، وتنتشر الأمراض بسبب فشل أنظمة المياه والري.
تقدّر الأمم المتحدة أن ثلثي السكان سيحتاجون لمساعدات أجنبية في 2025. ملايين اللاجئين يعانون حول حدود سوريا، ورغم حُلمهم بالعودة، لا يجدون ما يعودون إليه: لا وظائف، لا مدارس، لا مستشفيات، لا منازل. والأمر يزداد سوءاً بسبب أسوأ جفاف منذ 60 عاماً، وحذرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة من أن 16 مليون شخص معرضون لانعدام الأمن الغذائي.
الشرع هو الأمل الوحيد لاستقرار سوريا، لأنه الوحيد المتاح
إذا كان على حكومة الشرع الوليدة التعامل مع هذه المشكلات والتوترات الاجتماعية الناتجة، بجانب إعادة بناء الدولة وتشكيل جيش من الثوار السابقين ، فإنها ستحتاج إلى دعم خارجي كبير. وفعلاً، سوريا تعتمد على المساعدات الخارجية منذ سنوات. لكن، في أمر مؤلم، لم تزد المساعدات الآن عندما أصبحت الحاجة أكبر من أي وقت مضى، بل على العكس، تراجعت كثيراً، وكانت العواقب وخيمة.
الحكومات الأوروبية والعربية البخيلة وقصيرة النظر تتحمل جزءاً من المسؤولية، لكن الجاني الرئيسي في هذه المأساة هو ترامب نفسه.
لطالما كان ترامب يزدري المساعدات الخارجية، لكن قراره عند توليه الرئاسة بتدمير وكالة التنمية الدولية الأميركية (USAID) جاء أكثر استعراضاً منه أيديولوجياً، كجزء من الصراعات الثقافية الأميركية. ربما كان رئيس محافظ تقليدي سيطالب بتخفيضات وتعديلات، لكن ترامب لم يفعل ذلك. وسط ادعاءات غريبة بأن الوكالة هي “عش لليبراليين المتطرفين”، تحرك بسرعة متهورة لتدمير الجهاز الأميركي للمساعدات، مما قد يؤدي إلى وفاة ملايين.
حتى ربيع هذا العام، كانت الولايات المتحدة واحدة من أكبر الفاعلين الإنسانيين في سوريا، بعد الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء. بين 2012 و2024، قدمت واشنطن أكثر من 18 مليار دولار مساعدات، ساعدت ملايين السوريين الضعفاء على النجاة من أسوأ أزمة إنسانية في العالم. كما خدمت هذه المساعدات الاستراتيجية الأميركية بالحفاظ على البنية التحتية والمؤسسات لتجنب الانهيار الكامل لسوريا، ودعم شركاء إقليميين مثقلين بأزمة اللاجئين كالأردن ولبنان.
عام 2024، كانت USAID تدير ربع المساعدات العالمية للسوريين، لكنها لعبت أيضاً دوراً حيوياً في القيادة والقدرات المتخصصة للجهود الدولية. لكن هذا الشتاء، هدم ترامب كل ذلك لاستفزاز خصومه المحليين، وبعد نصف عام بدأت نتائج القرار تظهر.
في سوريا، بدأ الناس يفقدون بسرعة الوصول إلى دعم الغذاء والرعاية الصحية والمياه الصالحة للشرب، مع تسريح المنظمات غير الحكومية موظفيها وإنهاء مشاريعها. حذرت منظمة Mercy Corps في فبراير من توقفها عن توصيل المياه النظيفة إلى 118,000 سوري، وأعلنت Save the Children إغلاق 20 من 50 برنامج تغذية، مما يعرض أكثر من 400,000 طفل لخطر سوء التغذية الحاد. أشار تقرير من Refugees International إلى فقدان الدعم المائي والصحي لحوالي مليون سوري، وحذر من أن هذه التخفيضات قد تثير موجات نزوح جديدة. كما تأثرت مشاريع تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد، إذ تم سحب الدعم عن منصات مثل Verify-Sy التي تكافح التضليل، وEnab Baladi الأسبوعية المستقلة.
قد لا يُعرّف إرث ترامب في سوريا عبر تخفيف العقوبات، بل بتدميره للوكالة الأميركية للتنمية
إذن في سوريا، يواجه ترامب نفسه: من جهة، مسار براغماتي يحاول إنقاذ سوريا عبر دعم زعيمها الجديد ورفع العقوبات، ومن جهة أخرى، قرارات تقشفية متهورة تضر بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. في بلد تغمره الأسلحة والثأر، لن تؤدي نتائج تدمير USAID إلى معاناة بشرية فحسب، بل قد تشعل دوائر جديدة من العنف وعدم الاستقرار.
مصير إرث ترامب في سوريا ما زال مجهولاً: هل سيكون هو الرجل الذي منح سوريا فرصة للعظمة، أم من أحبط انتقالها بعد الأسد؟