سوريا بين ثناء الخارج و هشاشة الداخل

من يتوهَّمُ أن المبادئ هي ركيزةُ السياسة، لم يعش يومًا في دهاليزها قط. فالروابط بين الدول ليست أواصرَ وُدٍ، إنما حلبة لصراعِ مصالحَ متشابكة، تُدارُ أحيانًا بملمسٍ ناعمٍ يخفي نصلًا، وأحيانًا بلا قفازٍ أصلاً.
وكم من تهدئةٍ مفاجئة حملت في طياتها نيةً غيرَ معلنة، أو كانت مجردَ جسِّ نبضٍ في ساحةِ التجريب.

وحين تتبدلُ المشاهدُ فجأة، وتُغدَق إشارات إيجابية غير معهودة، وتنخفض حرارةُ الدبلوماسية بلا تمهيد، يبدأ الصمتُ يتحول إلى سؤال. ليس الاعتراضُ على التقاربِ في ذاته، إنما على سرعته وكثافته.
فالوعودُ المطمئنةُ قد لا تعني تحولًا سياسيًا حقيقيًا، بل استراحة تكتيكية، أو واجهةً لاختبارِ ردودِ الأفعال، أو حتى تمهيدًا لخطةٍ لم تُكشفْ بعد.
في غرفِ القرار، لا معنى لنبرة الصوتِ ما لم تُقرأ في سياقها الكامل. من يرى العالمَ من شرفتهِ قد يُخدعُ بالبريق، أما من اعتاد الجلوسَ في الغرفِ الرماديةِ، فيعرف أن الأضواءَ لا تُضاءُ اعتباطًا.

الداخلُ السوريُّ ليسَ استثناءً من هذه الديناميةِ المتقلِّبة، بل يتأرجحُ على إيقاعها، مما يضاعفُ من هشاشتهِ. حين تُبنى التقديراتُ على الإيحاء لا على الفهم، تفقد السياسةُ بوصلة الفعل، ويتحول الحراكُ الداخلي إلى استجابةٍ لا مبادرة.

ويحدثُ هذا في لحظةٍ داخليةٍ دقيقة. فالحربُ لم تُطوَ بعد، وإن خفَت صوتُ السلاح. ما تزالُ حاضرةً في الذاكرةِ، في مؤسساتٍ منخورة، وفي أحياءٍ تحفظُ أسماءَ الضحايا أكثر من أسماءِ شوارعها.
التحولاتُ لا تُوقَّتُ بجداولَ زمنيةٍ، بل تتخمرُ في صمتِ التفاعلات.

وفي خضمِّ هذا التآكل الصامت، تطفو أصواتٌ مألوفةُ الإيقاع: استعجالٌ في الحكم، تخوينٌ مبطن، تحريضٌ خفيّ، ولاءٌ هشّ، وكراهيةٌ ناعمةٌ تتغذى على الصورِ والإشاراتِ دون الوقائع.
ليست حادثةً بعينها، إنما نمطٌ قادرٌ على التسلل بلا عوائقَ بين الطبقات والطوائف وما تبقى من خيوطِ الثقة. الخطرُ لا يكمنُ فقط في ما يحدث، بل في الذهنيةِ التي تجعل من الفتنة خيارًا قابلًا للتداول، ومن المخالفِ خصمًا مفترضًا. وعندما تتحول منصات التعبير إلى مرايا للتجييش، تفقد الدولةُ مناعتها، وتنزلقُ من حاملةِ مشروعٍ إلى كيانٍ غارقٍ في ردود الفعل.

غير أن المفصل الأخطر ليس فيما يُقال، وإنما في كيفية التفكيرِ بما يُقال. بناءُ الدولةِ لا يكونُ عبر استجاباتٍ طارئة، إنما من خلال وعيٍ متراكم، ومراجعةٍ دائمة، ومرونةٍ ذكية. السيادةُ لا تُقاسُ برفض الجميعِ أو مهادنتهم، وإنما بالقدرةِ على هندسةِ القرارِ انطلاقًا من فهمٍ عميقٍ لتقاطعاتِ المصالح. النوايا الطيبة لا تصنع سياسةً إن لم تحرسها عينٌ تقرأ ما لا يُقال. بين التهدئة الحقيقية والترويض، بين التغيير والتحوير، بين الدعم والمقايضة، مسافاتٌ لا تُجتازُ إلا بمنظومةٍ راسخةٍ، تستند إلى المؤسسات لا الأشخاص، وتُقاس بالكفاءة لا بالخطب.

ما يُخشى ليس دائمًا خارج الحدود؛ التهديد الأعمق يتسلل حين يُهمَل الداخل ويُترك بلا يقظة. التاريخ لا يصنعه من يعلو صوته، إنما من يقرأ الصمت قبل أن يفيض. وحين يُدرك الناس أنهم يتقاسمون المصير، تتحول النجاة إلى اختبار للوعي، لا انتظار لحظٍ مباغت.

هذه ليست مجرد سياسة، بل جوهر البقاء.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية