حسّان عزّت… حين يسكن الشعر جسدًا ويغادره ضوءًا

بلا رتوش — ماهر حمصي

“كفّنوني بالماء… الماء وطني”

وكأنه كان يكتب مرثيته ، يوصي بالحنين، ويغمس هويته في الماء، ذاك الذي حمل ظمأه وذاكرته ومسافات غربته. كان الوطن في دمه لا يُختصر بجغرافيا، إنه يفيض كالماء… يتسلل إلى اللغة، ويقطر في القصيدة، ويُغسل به الوداع الأخير.

حسان عزت، ذلك الصوت الشعري العميق، الذي أضاء فضاء موقع “بلا رتوش” بنصوصه الإبداعية، منح القرّاء نفحاتٍ من الجمال والحرية، وجعل للكلمة امتدادًا أبعد من حدود اللغة، حيث الفكر يتسامى، والإحساس ينصهر في ألق المعنى.

لقد كان حضوره في “بلا رتوش” أكثر من مجرد مساهمة أدبية، بل كان إضافةً نوعيةً أغنت المشهد، ونسجت للمكان بصمةً من الأصالة والتفرّد، فلم تكن قصائده مجرد كلماتٍ تُقرأ، بل نبضًا يُحسّ، وشعاعًا يُنير العتمة.


حسان عزت ليس مجرد شاعر، بل أسطورةٌ تتجدد في كل حرفٍ يكتبه، رجلٌ يحيا داخل قصيدته كما يحيا الوطن في قلبه، حتى وهو بعيدٌ عن أرضه. المرض لم يكن سوى تحدٍّ آخر في رحلته، فلم يوقف مداده ولم يخفت صوته، بل صار جزءًا من ملحمته التي تتشكل بالكلمة، بالإرادة، وبذلك الشغف الذي لا يعرف حدودًا.

هو الشاعر الذي يسكنه الحنين بوهجٍ لا يخبو، يحمل الأرض في أعماقه لا كذكرى عابرة، بل كجذورٍ تمتد في دمه، وكأنها طينُ قصيدته الأولى، وملحُ كلماته التي لم تفقد مذاقها رغم المسافات.
الغربة لم تنل منه، بل منحته بُعدًا آخر للرؤية، مساحةً أكثر رحابةً للبوح، جعلته أكثر توقًا للجمال، أكثر عمقًا في انتمائه، وأكثر اندفاعًا ليظل صوتًا لا يُسكتُه بُعدٌ ولا يُخمدُه ألم.

وهناك، حيث تتكئ غربته على محبةٍ تحيطه، ترعاه بحنوٍّ لا يُقاس، رفيقة الدرب، الشاعرة فاتن حمودي، التي صارت للشعر نفسه امتدادًا من العناية والوفاء، فبقيت روحه تكتب، وقلبه يضيء، وكلماته تهطل رغم كل التحديات.

إنه ليس صوتًا يعبر زمنه، بل زمنٌ يصنعه الصوت، شاعرٌ لم تُقيدْه العوارضُ، بل جعل منها جسرًا يعبر فوقه نحو الخلود، حيث القصيدة لا تموت، وحيث الشعر، حين يكتبه الكبار، يصبح أكثر تجددًا من الحياة نفسها.

واليوم، وقد ترجل شاعر الورد والثورة عن صهوة الحياة، نودّع صوته الذي لن يغيب، ونبضه الذي سيظل يهمس في القصائد، نودّع الرجل الذي كتب عمره بالحرف، وجعل من الكلمة وطناً لا يُحتلّ.
رحل حسان عزت جسدًا، لكن قصائده ستظل تسكننا، تسقي أرواحنا من نبع الجمال والكرامة، وتذكّرنا دومًا أن الشعراء الكبار لا يموتون، بل يتحوّلون إلى ضوءٍ يسكن الأبجدية إلى الأبد.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية