سوق النخاسة الرقمي: حيث تُباع العقول بـ”لايك” و”ريتويت”

ماهر حمصي
مؤسس و مدير بلا رتوش

لقد وضعت يدك على الجرح تمامًا.. نعم ! وضعت يدك على “الجريمة” التي تحدث في وضح النهار أمام أعيننا، وتحت أصابعنا تحديدًا.

إن ما أسميته بـ”وسائل التواصل الاجتماعي” هو في الحقيقة مستودعٌ لكل آفة فكرية وعقلية، يخرج منه كل شر، تاركًا وراءه شعاعًا خافتًا من الأمل لا يكاد يُرى.

لقد أصبحنا نعيش في زمن “العالم المزيّف” بامتياز. حيث تجد على هذه المنصات جيشًا من “الحكماء” الذين لم يقرؤوا في حياتهم كتابًا واحدًا خارج منهج المدرسة، لكنهم ينهالون عليك بالنصائح الفلسفية التي تظن معها أنهم قادمون من “أثينا” القديمة.
يكتب لك أحدهم عن “قوة العقل الباطن” و”قوانين الجذب الكوني” وهو لا يستطيع أن يجذب انتباه النملة في بيته!
ويحدثك آخر عن “أدب الحوار” وهو لا يعرف كيف يتهجى اسم الكاتب الذي يقتبس منه.

والمصيبة لا تتوقف عند حدود النصح والإرشاد، بل تتجاوزها إلى فك شفرات السياسة الدولية ووضع الخطط العسكرية.
لم يكتفوا بالعبث في عقولنا وتوجيه حياتنا، بل انتقلوا إلى رسم خارطة العالم، وهم لا يعرفون أين يقع منزلهم عليها.
ترى أحدهم يكتب بلهجة الواثق عن “المؤامرات الكبرى” و”المصالح الجيوسياسية” وكأنه جلس على طاولة مع كبار الدبلوماسيين.
والأنكى من ذلك أن بعضهم يقحم في تبرمه وتنظيره كلمات أجنبية لا يعرف حتى معناها.
 بإشارات من أصابعه يرسم هلالين، ونقطة من أول السطر ثم يتلمظ ويتابع.

والمشكلة ليست في مجرد وجود هؤلاء، إنما  في أننا سمحنا لهم أن يكونوا “مرجعيات”. لقد أسلمنا عقولنا لهؤلاء الذين لا يملكون أي مؤهل، لا علمي ولا حتى “مدرسي”، وربما لا يملكون حتى خبرة “الحياة” التي يتبجحون بها.
هم يعتقدون أن مجرد “نقرة” على زر النشر تمنحهم شهادة “الخبرة” ووسام “الحكمة”.

هذا المستودع اللعين أصبح مصنعًا ضخمًا لتفريخ “نصّاحين” و”فلاسفة” و”علماء” و “ساسة” و ” محللين” من ورق. يلبسون عباءة الحكمة ليبيعوا لك “وهم المعرفة”، ويُضيعون عليك وقتًا وجهدًا كان من الممكن أن تستثمره في قراءة كتاب حقيقي، أو حتى في النظر إلى الحائط!

في النهاية، ما هي هذه الوسائل إلا سوق نخاسة رقمي، تُباع فيه العقول بأبخس الأثمان، ويُشترى فيه الوهم بأغلى الأوقات. ونحن، للأسف، نقف في هذا السوق، إما بائعين أو مشترين، أو حتى مجرد متفرجين مُتعجبين من هذا القدر الهائل من “الجهل ” الذي يسكن شاشاتنا.


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية