لاجئة سورية سابقة تفوز بجائزة نانسن للاجئ عن أوروبا لعام 2024

كان أول ما خطر ببال جين داوود عندما استيقظت من نومها قبل فجر السادس من فبراير 2023، هو أن قنبلة، مثل تلك التي كادت تصيبها وعائلتها في سوريا قبل تسع سنوات، كانت على وشك السقوط على مبنى شقتهم الواقعة في شانلي أورفة، جنوب تركيا. وفي غضون ثوانٍ، أدركت أنها لم تكن قنبلة، بل زلزال وأنه كان عليها وعلى والديها وأشقائها الأصغر سناً الخروج من المبنى في أسرع وقت ممكن. 

جين داوود وهي تكتب خوارزمية لمنصتها الإلكترونية “معالج السلام”، والتي تقدم خدمات الصحة النفسية للاجئين والمواطنين الأتراك. تم منحها جائزة نانسن للاجئ عن أوروبا لعام 2024. 

تستذكر جين، قائلة: “كان والدي يحاول فتح الباب، لكنه كان يهتز بشدة لدرجة أنه لم يستطع تحريك المفتاح. مرت ثوانٍ، لكنها بدت وكأنها ساعات. وأخيراً، عندما تمكن من فتح الباب، ركضنا بأسرع ما يمكن”. 

وصلت الأسرة إلى السيارة وهي ترتجف وحافية الأقدام وبملابس النوم، لتقضي معظم الأيام القليلة التالية بانتظار انحسار الهزات الارتدادية. 

في ذلك اليوم نفسه، توجهت جين إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتعرض خط المساعدة الخاص بـ”معالج السلام”، وهي المنصة الإلكترونية التي صممتها وبنتها وأطلقتها قبل عام لربط اللاجئين والمواطنين الأتراك بخدمات الصحة النفسية بعدة لغات. 

وتقول: “كتبت أنها مجانية لأي شخص تأثر بهذا الزلزال”. 

في غضون ساعات، تلقت 200 طلب دعم، وفي غضون أيام، عدة آلاف. جاءت الطلبات من اللاجئين والأتراك الذين أصيبوا بصدمات نفسية جراء الزلزال العنيف الذي بلغت قوته 7.8 درجة وآلاف الهزات الارتدادية التي أعقبته. 

وتذكر جين، قائلة: “لقد صدمت كثيراً من العدد، وشعرت أيضاً بالمسؤولية من أجل القيام بشيء لهؤلاء الأشخاص. لذلك، اتصلت بأخصائيين نفسيين لدينا والذين كانوا يعملون عن بُعد، وبدأوا بتقديم مئات الساعات من الإسعافات الأولية النفسية”. 

كان هذا هو نوع الدعم الذي كانت بحاجة له جين نفسها بشدة عندما وصلت إلى شانلي أورفة مع عائلتها كفتاة تبلغ من العمر 16 عاماً ومصابة بصدمة نفسية في عام 2014. 

أمضت طفولة سعيدة في مدينة الرقة الشمالية، حيث كان والدها حسن طبيب أسنان مشهوراً. كانت جين طالبة مجتهدة، تركز على هدفها في دراسة الطب وأن تصبح طبيبة: “لقد خططت لحياتي – أي جامعة سألتحق بها، وماذا سأدرس، وأين سأقيم”. 

لكن الصراع غير كل ذلك، ولم تدرك عائلتها الخطر على الفور. وقالت: “بدأ القصف والقتال، لكننا لم نفهم حقاً بعد أنها كانت الحرب، وأن علينا الخروج. ثم جاء تنظيم الدولة الإسلامية وبدأت الأمور السيئة حقاً”. 

جين داوود مع والديها وإخوتها في منزلهم في شانلي أورفة. 

كان منزل جين محاطاً بمبانٍ حكومية احتلها المسلحون، مما جعل الحي هدفاً للغارات الجوية. وأمضت الأسرة وقتها معاً في شقتهم وهم في حالة دائمة من الرعب. وتستذكر جين، قائلة: “كان صوت القصف مستمراً. لم أستطع تناول أي شيء، ولم أنم على الإطلاق لأنني في اللحظة التي كنت أذهب فيها إلى النوم، كنت أعتقد أنني لن أرَ عائلتي مرة أخرى”. 

في اليوم الذي سقطت فيه قنبلة في الحديقة خارج مبنى شقتهم، مما أدى إلى دمار أحد جدران غرفة نوم جين، أدركت الأسرة أخيراً أنه حان وقت المغادرة، لكن كان عليهم الانتظار لعدة أشهر حتى تحين اللحظة المناسبة. 

عندما حانت تلك اللحظة في وقت مبكر من صباح أحد الأيام، فروا من المدينة بالسيارة. وبعد لحظات من وصولهم إلى تركيا، تلقوا مكالمة هاتفية من أحد الجيران يخبرهم فيها أن مبنى شقتهم تعرض للدمار بفعل قنبلة، وهي ما يعني أنه لن تكون هناك عودة إلى المنزل الذي نشأت فيه جين، ولن تعرف أبداً مصير العديد من أصدقائها وجيرانها. 

في شانلي أورفة، انتقلت الأسرة إلى شقة مستأجرة لم تغادرها جين لمدة عام. تقول: “كنت في حالة بائسة، وكنت أعاني من اضطراب ما بعد الصدمة ومن الكوابيس. لم أكن أرغب في فعل أي شيء؛ كنت فقط أحدق في الجدران”. 

لم تكن قد تعلمت اللغة التركية بعد ولم تكن تعلم بوجود خدمات استشارية متاحة بلغتها الأم. 

في النهاية، وبتشجيع من والديها، قررت إعادة إحياء أحلامها في دراسة الطب، حيث أمضت العامين التاليين في تعلم اللغة التركية والدراسة لامتحانات القبول في المدرسة الثانوية والجامعة قبل قبولها في جامعة هاران، ليس لدراسة الطب ولكن اختيارها الثاني، هندسة الكمبيوتر. 

جين خلال العمل مع مساعدتها رشا غوزيل (يسار) وأخصائية النفس التركية هاتيس كوروغلو (يمين).

كانت فكرة “معالج السلام” قد خطرت لها أثناء حضورها دورتين تدريبيين في عامها الدراسي الثاني، أحدهما حول تطوير تطبيقات أندرويد والآخر حول ريادة الأعمال. تقول: “في تلك اللحظة، بدأت العمل على الموضوع، وكان بمثابة الأمل بالنسبة لي. وعلى الرغم من كل الصعوبات والتجارب التي مررت بها، كنت واثقة من أن شخصاً آخر في مكان آخر يعاني منها”. 

أعدت جين خطة عمل مفصلة وبدأت العمل مع مطوري البرمجيات وعلماء النفس لبناء المنصة. وقد تم إطلاق الشركة بعد عامين ولديها الآن قائمة من 100 من الأخصائيين النفسيين الذين يقدمون جلسات علاجية عبر الإنترنت باللغات التركية والعربية والكردية والإنكليزية. في حين أن هناك من يستطيع تحمل تكاليف الجلسات الفردية أو الجماعية، يمكن للفئات الضعيفة مثل اللاجئين الوصول إليها مجاناً. 

وفقاً لسهيل أحمد، عالم النفس السوري الذي يعمل مع “معالج السلام” منذ العام الماضي، فإن توفير العلاج عبر الإنترنت من شأنه إزالة بعض الحواجز التي تمنع بعض الأشخاص من طلب المساعدة فيما يتعلق بصحتهم النفسية. 

يقول: “تضمن هذه المنصة السرية وهذا يقلل من الوصمة. من خلال القيام بذلك عبر الإنترنت، فإنهم يشعرون بحرية التحدث لأنه لا توجد أحكام، ويمكنهم التحدث حتى عن مواضيع حساسة”. 

من القضايا المشتركة بين زواره السوريين الصدمة المرتبطة بالأزمة والزلزال، إضافة إلى القلق والاكتئاب المتعلقين بوضعهم في تركيا. 

عندما أخبر أحد الأصدقاء محمود الشيخ، وهو خياط سابق من الرقة يبلغ من العمر 63 عاماً، عن منصة معالج السلام، كان يراوده الشك، لكنه ملأ النموذج عبر الإنترنت وتم ربطه بسرعة بسهيل. يتذكر محمود، قائلاً: “عندما سألني السيد سهيل عن مشكلتي، أخبرته أنني أشعر وكأنني كنت وحدي لمدة 100 عام”.

محمود الشيخ، لاجئ سوري وأحد زوار منصة “معالج السلام”، يتحدث مع طبيبه النفسي سهيل أحمد.

في مدينته الرقة، كان محمود شخصاً اجتماعياً ولديه العديد من الأصدقاء. وفي شانلي أورفة، عجز عن العمل بسبب إصابة في الرقبة، وحزن على أفراد الأسرة الذين فقدهم أثناء الحرب، فغرق في حالة من الاكتئاب. 

أصبحت جلساته مع سهيل شيئاً يتطلع إليه: “لقد استمع إلي، وأرسل لي روابط لكتب سنناقشها. كما شجعني على ممارسة بعض التمارين والبدء في عزف الموسيقى مرة أخرى مع أصدقائي”. 

يشعر محمود الآن بقدرة أفضل على إدارة صحته النفسية وفهم ما قد يمر به أفراد عائلته، ويقول: “بصفتنا عرباً، لا نؤمن بأن المشاكل النفسية مرض يمكن طلب المساعدة فيه، لكن هذا خطأ. بدون معالج السلام، ربما كانت حياتي فارغة”، مضيفاً أنه يشعر الآن بمزيد من الأمل بشأن المستقبل. 

نظراً لتفانيها في تقديم الدعم الصحي النفسي للاجئين وغيرهم من الناجين من الصدمات، تم اختيار جين داوود كفائزة إقليمية بجائزة نانسن للاجئ عن أوروبا لعام 2024، والتي تقدمها المفوضية كل عام. 

تقول: “إن ردود الفعل من المستفيدين من خدماتنا هي أكبر مكافأة بالنسبة لي، ولكن الفوز بهذه الجائزة له معنى كبير، فهو يمنحني الدافع والشجاعة لمواصلة هذا العمل”. 


مع استمرار التعافي من الزلزال في تركيا وسط ضعف الاقتصاد، تزداد الحاجة إلى خدمات منصة معالج السلام. وتخطط جين لتوسيع نطاق المنصة من خلال توظيف المزيد من الأخصائيين النفسيين والتعاون بشكل أكبر مع المنظمات الإنسانية. 

تقول: “ولدت منصة معالج السلام جراء الحرب، لذا فإن مهمتنا دائماً هي بناء السلام – السلام الداخلي والسلام في العالم. كل شيء يبدأ من داخلنا”. 

 


unhcr

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية