يا للمعجزة.. ما نزال نحتفظ بك يا فلسطيننا .. لـ: منذر مصري

منذرمصري
شاعر وكاتب وفنان سوري

لا أذكر من أين تحصلت على هذا الكتيب ذي العنوان “من الأرض المحتلة: معرض متجول للفنان: نذير نبعة”. وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي ــ مديرية الفنون الجميلة، غير المؤرخ! ذي 32 صفحة عرضانية، 17 سم طول ــ 24 سم عرض، غير المرقمة! متضمنة 30 رسمًا بالحبر الأسود بريشة، وأظن الصحيح هنا، بقصبة نذير نبعة، جميعها بلا توقيع، يرافقها مقاطع شعرية منتقاة لشعراء الأرض المحتلة. مع كلمة للوزارة على غلافه الخلفي:

[هذا المعرض رسالة لك أيها العربي
من شعراء الأرض المحتلة
صورها فنان من أرض سورية العربية
لتكون أكثر تحسسًا لدورك عندما
تعيش شجونهم وأحلامهم وبطولاتهم
من خلال هذه القصائد والصور

ميثاق يضعه المناضلون الفدائيون
لتحرير الأرض العربية…
ميثاق لك وميثاق منك
فأنت حيثما كنت
شريك في النضال حتى النصر…]
                     
                                 الوزارة

كما لا أذكر أيضًا أني حضرت المعرض، رغم معرفتي بالرسوم جميعها جيدًا، لا في اللاذقية، ولا في حلب، حيث يفترض، بالنظر إلى تاريخ تجواله في سورية، أني كنت موجودًا ذلك الحين:21 ــ 27/ 8/ 1968، كما أرّخت على زاوية صفحته الأولى، وتحته إمضائي لا غير، متعفّفًا عن ذكر أي معلومة أخرى، أي أوائل أيام عامي الدراسي الثاني في كلية العلوم الاقتصادية ــ جامعة حلب. المعرفة التي يمكن أن يكون مصدرها أن الرسوم جميعها استخدمت مرارًا وتكرارًا، في الصحف والمجلات العربية، وخاصة السورية والفلسطينية واللبنانية، بجانب القصص والقصائد والمقالات عن القضية والمقاومة الفلسطينية، التي كانت شائعة على نحو واسع، في ذلك الزمن.

علاقة نذير نبعة كفنان سوري بفلسطين، وبالعمل الفدائي الفلسطيني، ليست كسواها، إلى درجة أنه عرف فنانًا تشكيليًّا فلسطينيًّا أكثر منه سوريًّا

ورغم أنه صحيح ما يذكر أن فكرة المعرض تولّدت في عقل ووجدان نذير نبعة، إثر الانتصار غير المسبوق في (معركة الكرامة) في غور الأردن، ذلك الهجوم الكبير الذي قامت به فجر 21/ 3/ 1968، قوات إسرائيلية من المشاة والمدرعات والطوافات، سبقه تمهيد واسع بالمدفعية الثقيلة، على أربعة محاور، أحدها كان للتضليل، وتم التصدي للهجوم من قبل الفدائيين الفلسطينيين جنبًا إلى جنب جنود وضباط من الجيش الأردني، تكبد فيها الإسرائيليون المنتشون بانتصاراتهم في حرب 5 حزيران/ يونيو 1967، خسائر كبيرة، لم تكن تخطر على بالهم، عمد الإعلام الرسمي الإسرائيلي إلى إخفائها وتقليل شأنها ما أمكنه، فلم يعترف سوى بخسارة 33 قتيلًا، و161 جريحًا. وبإصابة 27 دبابة، تركوا منها 4 دبابات في أرض المعركة، كما تركوا مركبتين ناقلتين للجنود، وعربتين ميدانيتين، وإسقاط طائرة هليكوبتر واحدة! بينما كانت الإحصائيات الأردنية المعلنة رسميًا، قتل 250 وجرح 450 عنصرًا. والاستيلاء على 11 دبابة متروكة في أرض المعركة، و3 ناقلات جنود، وخمس عربات ميدانية! مع رؤية عدد لا يحصى من الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية المعطوبة والمدمرة التي حرص العدو على عدم تركها للفدائيين والجيش الأردني! أقول، رغم أن كل هذا صحيح، إلّا أنه من الناحية الفنية، وهذا ما لم يقله حتى الفنان نذير نبعة في أي من مقابلاته، كما لم يقله أحد، حسب معرفتي، أنه كما جاءت معركة الكرامة ردًّا على هزيمة 5 حزيران/ يونيو، جاء معرض “من الأرض المحتلة” ردًا على معرض “في سبيل القضية”، الذي أقامه الفنان لؤي كيالي (1934 ــ 1978)، قبل شهر من الهزيمة، ثم مزق لوحاته بعدها، لأنه ليس مصادفة أن يكون كلا المعرضين عن فلسطين، وكلاهما جوالين، وأن تكون رسوم المعرضين معًا مقتصرة على اللون الأسود، وكل منها يحتوي على 30 لوحة من دون زيادة، أو نقصان! ولكنه، في ذات الوقت، ليس ردًا عدائيًّا، ولا ردًا تنافسيًّا، فنذير نبعة لم يكن من أولئك الذين تهجموا على معرض لؤي كيالي، وشنوا الحملات الصحافية ضده، باتهامه بالذاتية، والفجائعية، والاعتراف بالهزيمة، الأمر الذي كان يعدّ نشازًا بالنسبة لخطاب السلطة الحاكمة آنذاك، القائم على ادعاء أن إسرائيل انهزمت لأنها فشلت في تحقيق هدفها الأول من هذه الحرب، ألا وهو إسقاط النظام التقدمي في سورية! فنذير نفسه كان قد رسم ما شابهها، وربما يزيدها مأسوية، عندما رسم ضحايا النابالم على الجبهة السورية! وأجدها مناسبة لأن أدلي بدلوي في موضوع المفاضلة بين معرضي لؤي ونذير، الذي كثيرًا ما كان مدارًا لنقاشاتنا تلك الأيام، فأعود وأقول إنه لا مجال لهذه المفاضلة، فالمعرضان يمثلان نوعين مختلفين، إن لم أقل مضادين، من الفن! رسوم نذير بخطوطها السوداء العريضة والمتوسطة العرض والرفيعة حسب المقتضى، مستعيضًا عن الرماديات بمساحات مهشرة بخطوط دقيقة، أشبه بالإشعاعات، مرسومة برأس قصبة مدببة، هي أقرب للفن الإعلاني، الهادف، ذي الرسالة، كما ورد في كلمة الوزارة، بينما لوحات لؤي تنتمي للمدرسة التعبيرية، شكلًا ومضمونًا، ذاتية، لفنان ذي حساسية عالية، تصل لحد المرضية، يتدرج فيها اللون الأسود من المظلم الحالك إلى الرمادي إلى الأبيض، موزعًا الضوء على الوجوه والأجسام المتلوية والتي تجهد إلّا تسقط! يذكرني هذا برأي كنت أردده خلال تلك المناقشات في أنه كان من الأصح لو أن عنوان معرض لؤي كيالي كان “من الأرض المحتلة”، ومعرض نذير نبعة “في سبيل القضية”.

يشكل نذير نبعة (1938 ــ 2016) المولود في دمشق، والحاصل على الشهادة الثانوية عام 1959، مع إلياس زيات، وخالد مز، وليلى نصير، وهم من خريجي كلية الفنون الجميلة في القاهرة في ستينيات القرن الماضي، مع أقرانهم خريجي مدارس الفنون في روما، وباريس، كمحمود حماد، ونصير شورى، ولؤي كيالي، وفاتح المدرس، ما يمكن اعتباره جيل الرواد الحقيقي للحركة التشكيلية السورية. وأحسبهم جميعًا، من دون استثناء، كانت القضية الفلسطينية تحتل مكانة عالية في مشاعرهم، كما في تجاربهم الفنية. حتى محمود حماد، التجريدي منهم، قام برسم جدارية كبيرة باسم جدارية فلسطين. إلّا أن علاقة نذير نبعة كفنان سوري بفلسطين، وبالعمل الفدائي الفلسطيني، ليست كسواها، إلى درجة أنه عرف فنانًا تشكيليًّا فلسطينيًّا أكثر منه سوريًّا. صرح بذلك في أكثر من مقابلة. فهو من كلّف من قبل منظمة التحرير الفلسطينية بتصميم شعار العاصفة، وملصقات وفد فلسطين إلى المهرجان العالمي التاسع للطلبة والشباب في صوفيا عام 1968، فصارت هذه الملصقات جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة البصرية الفلسطينية. وحين مات نعته منظمة التحرير الفلسطينية كمناضل، فأقيم في متحف محمود درويش في رام الله تأبين خاصّ به بعنوان “لقاء الوفاء”.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن هنالك فنانًا تشكيليًّا سوريًّا لم يستحق التأبين والتكريم فحسب، بل الجنسية الفلسطينية، بكل جدارة، ألا وهو برهان كركوتلي (1932 ــ 2003)، الذي سبق نذير والآخرين بتخرجه من كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1958، والذي كرس تجربته التشكيلية برمتها للقضية الفلسطينية، منجزًا ما يشبه أنطولوجيا تشكيلية شاملة لكل شيء فلسطيني؛ الثياب والحلي والزهور والطيور والشجار والبيوت والأمهات والأخوات والحبيبات والشيوخ والأطفال، وصولًا إلى الشعراء وقصائدهم، والفدائيين وبنادقهم، مضيفًا ما فات لؤي ونذير، وسواهم، أن يتنبهوا له، ويحسبوا حسابه في أعمالهم عن فلسطين، ألا وهو الجمال!

أحار ماذا أسمي الكتيبات، الكراسات، المنشورات التي توزع عادة في المعارض التشكيلية، وخاصة إني أمنع نفسي من استخدام كلمة (بروشور)، أو (كاتالوغ)، رغم درجتهما في كلام الفنانين. ما دفعني للاتصال بصديقي الفنان التشكيلي السوري عبد اللــه مراد، وسؤاله؟ فأجابني بما قبلته واعتمدته دون تردد: “الدليل”. رغم أن دليل “من الأرض المحتلة” لا يتضمن أي معلومة فنية، كقياس اللوحة، أو تاريخها، ولا حتى رقمها! ليصحّ أن يكون دليلًا! وبما أني سبق وقمت بتوصيف الدليل بما يكفي، فسأنتقل مباشرة إلى محتوياته من لوحات وقصائد، مكتفيًا بمقدمة الفنان للمعرض، و6 لوحات مع قصائدها:
1 ــ [لم يمت صديقي مازن لم يمت
فالعيون التي تحدّق دائمًا في الشمس… لا يمكن أن تموت

سيشقّ قلب الليل يومًا ويعود
يعود مثل فجر أبلج]
             نذير
2 ــ الغلاف: ما تجدر الإشارة إليه في لوحة الغلاف أن نذير يختار، كما في أغلب رسوم المعرض، ملامح فلاح بعقال لتمثيل الفلسطيني. وأظن هذا يتوافق مع مفردة الأرض في العنوان، والتي كانت الأكثر شيوعًا في تلك الحقبة.

3 ــ يمثل الرسم وجهًا جانبيًّا لطفل ذي عين واسعة يتوسطها بؤبؤ مشع، يحمل بيده اليسرى مصباحًا، ويمد يده اليمنى بإشارة (قف). وقد أرفق الرسم بقصيدة “نيران المجوس” لتوفيق زياد:
[على مهلي
أشد الضوء خيطًا ريقًا
من ظلمة الليل
وأرعى مشتل الأحلام
عند منابع السيل
وأغرس أنضر الواحات
وسط حرائق الرمل
وإنْ يومًا عثرت على الطريق
يردني أصلي

على مهلي
لأني لست كالكبريت
أضيء لمرة وأموت
ولكني كنيران المجوس… أضيء
من مهدي إلى لحدي]
                  توفيق زياد

4 ــ تشكيل بالغ القوة، يصلح لأن يكون عملًا نحتيًّا بامتياز، لمقاوم عار أعزل ينغرز في صدره سهم، لكنه يشد بقبضتيه ويصرخ! وهنا تجدر الملاحظة بأن نذير إما أن يلبس شخوصه ثيابًا عربية تقليدية، وإما يرسمهم عراة من دون الأجزاء الجنسية! يرافق الرسم مقطع من قصيدة (سأقاوم) لسميح القاسم:
[ربما أفقد ــ ما شئت ــ معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل
حجارًا
وعتالًا
وكناس شوارع
ربما أخمد عريانًا وجائع
يا عدو الشمس
لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي
سأقاوم]

5 ــ صبية بوشوم على الوجه، بعينين كبيرتين مكحلتين يعلوهما حاجبان سميكان، خلفها بيوت، يعلوها بدورها، ثعبان أسود بشدق مفتوح بمواجهة قرص دائري ذي محيط مظلم. يرافق الرسم مقطع من قصيدة “خذيني تحت عينيك” لمحمود درويش:
[خذيني تحت عينيك
خذيني لوحة لوزية في كوخ حسرات
خذيني آية من سفر مأساتي

فلسطينية العينين والوشم
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهم
فلسطينية المنديل والقدمين والجسم
فلسطينية الكلمات والصمت
فلسطينية الصوت
فلسطينية الميلاد والموت

حملتك في دفاتري القديمة
نار أشعاري
حملتك زاد أسفاري]
                   محمود درويش

6 ــ يمثل الرسم شابًا يرفع بيديه شكلًا دائريًّا ذا أشعة على أنه قمر! يرافق النص مقطع من قصيدة “خائف من القمر” لمحمود درويش:
[خبّئيني أتى القمر
ليت مرآتنا حجر
وجه أمسي مسافر
ويدانا على سفر
منزلي كان خندقًا
لأراجيح القمر
خبّئيني بوحدتي
ودعي لي مخدّتي
أنت عندي أم القمر]
                  محمود درويش

7 ــ اخترت أحد الرسوم الستة، التي لم يرفقها نذير بقصيدة ما، تمثل مقاومين أحدهما يحمل جسد رفيقه، ولكنه يستمر في التقدم، رافعًا قبضته، وهي أيضًا تصلح أن تكون عملًا نحتيًّا:

تساءلت، بداية، من أين تحصلت على هذا الدليل؟ وبعدها تساءلت ما إذا كنت قد حضرت المعرض أم لا؟ تساؤلي الثالث الآن، وكأنه احتجاج على السؤالين السابقين: “كيف يمكن لي أن أذكر، وقد مضى على ذلك نصف قرن ويزيد؟”، 56 عامًا، تنقلت فيها ومعي كتبي ولوحاتي وأسطواناتي، ما لا يحصى من الأماكن، احترق مرسمي وفيه مكتبتي مرة، وغرق ثلاث مرات، وما أزال أحتفظ بدليل معرض “من الأرض المحتلة”، كما أحتفظ أيضًا بدليل معرض “في سبيل القضية”! 56 عامًا، لا نعلم، كما في إحدى قصائدي الباكرة عمن يكفي ذكر أول حرفين من اسمه (م. ع):
[ماذا رمينا
وماذا أضعنا
وماذا أخذ منّا عنوةً]
ما أعلمه أننا خسرنا فيها وطنًا، ولكني، يا للمعجزة، ما نزال نحتفظ بك، يا فلسطيننا!


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية