التحدي الأقوى لسلطة بوتين الذي يحكم منذ 23 عاما، لا يزال يتردد صداه داخل النخبة بموسكو، وسط تساؤلات عن فقدانه السيطرة على الحكم، ولو للحظة قصيرة.
العصيان الذي قاده زعيم المرتزقة يفغيني بريغوجين، هز الصورة التي رسمت بدقة وظلت حجر الأساس لرئاسة بوتين، وهو أنه يمثل الاستقرار والقوة، وهناك عدة من بين النخبة العليا ورجال الأعمال يتساءلون إن كان سيتعافى من هذه الضربة، بل رأى بعضهم أن البحث عن بديل لبوتين بدأ الآن.
قال مسؤول روسي قريب من الدوائر الدبلوماسية العليا: “هناك ألعاب تحاك ولا يفهمهما أحد.. حصل فقدان للسيطرة على البلد وإن جزئيا”.
أعضاء النخب في موسكو يتساءلون عن قدرة قوة منشقة مثل مرتزقة فاغنر السيطرة على مركز القيادة والتحكم العسكري للحرب في أوكرانيا بمدينة روستوف أون دون جنوب روسيا، دون أي مقاومة، وثم التقدم نحو العاصمة، قبل أن يأمر بريغوجين قواته بالعودة إلى الوراء.
وتساءل مقرب لملياردير في موسكو: “كيف استطاعوا قيادة الدبابات ولمئات من الكيلومترات شمالا باتجاه موسكو ولم يتم وقفهم”.
وقال ملياردير روسي، رفض مثل غيره الكشف عن هويته: “عندما يكون لديك رتل من آلاف الأشخاص يزحفون ولم يوقفهم أحد، فمن الواضح أن هناك فقدانا للسيطرة”.
وأكد بوتين في خطابه أنه أمر باتخاذ كل الإجراءات لمنع سفك الدماء، وأكد على أهمية منح الوقت لمن ارتكبوا أخطاء، وكي يعترفوا أن أفعالهم تم رفضها وبحزم من المجتمع، وأن ما يفعلونه سيقود إلى “تداعيات تراجيدية ومدمرة على روسيا”. إلا أن الأسئلة مستمرة حول السماح لبريغوجين، المقرب من بوتين منذ التسعينات من القرن الماضي الإفلات من العقوبات على شن تمرد، وقتل قواته جنودا روسا بعد إسقاط طائرات ومروحيات، حسب مدونين عسكريين روس.
فبعد سحبه قواته، انتقل إلى بيلاروسيا، حيث يخطط حسب تسجيل صوتي له الإثنين الماضي، مواصلة عمله على رأس مجموعة فاغنر.
وقال رجل الأعمال الأول في موسكو: “كان يجب فتح قضية إرهاب، فهذه جرائم خطيرة.. مرة أخرى لم يتم عمل أي شيء”.
وأكد بريغوجين في تسجيله الصوتي، وهو الأول منذ عصيانه الفاشل، أنه كان يحاول الحفاظ على مرتزقة فاغنر، ولم يكن يريد بأي حال الإطاحة ببوتين. مشيرا إلى أنه خشي من دمج المجموعة في الجيش الروسي، والتأكد من معاقبة من ارتكبوا “أخطاء فادحة” في أوكرانيا.
وكشفت هجمات زعيم فاغنر ضد القيادة العسكرية والمستمرة منذ عدة أشهر عن الانقسامات العميقة داخل النخبة الروسية، وطريقة إدارة بوتين للحرب، وسياسات الرئيس الروسي بشكل عام.
وقال المستشار المقرب من الكرملين سيرغي ماركوف، إن الأحداث في الأيام الماضية “تظهر أن البلد لا يسير في الاتجاه الصحيح.. ولم يتغير شيء، فسيحدث هذا مرة ثانية بالتأكيد”.
رأى رجلا أعمال في موسكو أن بريغوجين لم يكن ليستطيع التقدم في الطريق نحو العاصمة دون أي عائق إلا بالحصول على دعم من الخدمات الأمنية.
ولم تفعل القوات الشيشانية التي أرسلت إلى روستوف اون أي شيء على ما يبدو. أما القوات التي أرسلت لمواجهة مقاتلي فاغنر على الطريق لموسكو، فقصفت محطة وقود في روستوف، وتركت أخرى أكبر منها في فورونيج، ولم تضرب القوات الروسية هذه سوى جسر واحد لإبطاء تقديم المتمردين.
وقال رجل الأعمال: “لقد كانوا يحاولون الظهور أمام الرئيس بأنهم يفعلون شيئا، لكنهم لم يفعلوا في الحقيقة أي شيء، ولم يكن الرئيس الروسي يسيطر على أي شيء”.
معركة بريغوجين مع القيادة العسكرية الروسية ربما كانت صورة عن صراع عميق داخل الأجهزة الأمنية الروسية بشأن مستقبل الرئاسة في روسيا. والأكثر أهمية وتحديدا لمصيره، هو قراره عقد صفقة مع زعيم المتمردين بدلا من مواجهة معركة دموية لو وصل مقاتلي فاغنر إلى موسكو، حيث كانت القوات الخاصة تحضر للدفاع عن العاصمة.
وقالت تاتانيا ستانوفايا مؤسسة “أر بوليتك” ومقرها باريس: “بالنسبة للنخبة فهذا إشكالي، لأنه من وجهة النظر المرئية، فإن بوتين بدا ضعيفا، وبدا كشخص خائف، وأجبر على تقديم تنازلات.. ومن وجهة النظر الموضوعية، خرج بوتين ناجحا، فالخيارات الأخرى كانت معركة دموية في ضواحي موسكو، والتي ستكون أسوأ”.
إلا أن الأسئلة تظل باقية حول محاولة أي من الطرفين للتخلي عن الالتزامات في الاتفاق، مع أن تمرد بريغوجين كشف عن مكامن ضعف كثيرة في النظام، كما تقول ستانوفايا، و”سيحاول بوتين تغطية نقاط الضعف”.
وهناك من يقول إن ساعة النهاية لحكمه بدأت تدق، وهناك البعض في الكرملين “يبحثون عن خليفة، ولو طال البحث فربما وجد البعض شخصا لهم”، كما يقول مسؤول في الكرملين مقرب من الدوائر الدبلوماسية العليا. وقال إن الأوكرانيين يحاولون الاستفادة من الفوضى في موسكو، واستعادة مناطق في حملتهم المضادة.