“حتى أسوأ معاناة قد تبدو صغيرة في السياق الأكبر للعالم”, لكننا نحن الذين اختبرنا كل صنوف الألم, لن نبخس “إيكاروس” حقه في رثاء حزين بعد فجيعة فقدان حياته, رثاء سيكون أيضا صغيرا, وربما عابرا, في السياق الأكبر للعالم.
على هذا النحو تعامل العالم مع ما آلت إليه مطالبنا بالحقوق المشروعة للشعوب حول العالم “الخطأ لهم, والاعتذار شرط علينا“.
أقول المشروعة, استنادا إلى لوائح حقوق الإنسان التي وضعت بعناية قيد التنفيذ إثر حرب التهمت عشرين مليون ضحية, العدد الأكبر منهم من المدنيين, ولا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا في المكان والزمان الخطأ لحظة وقوع الكارثة.
في الحرب تتفوق أعداد الضحايا من المدنيين عن هؤلاء الذين ذهبوا وهم مدركين أنهم قد لا يعودون , فاحتاطوا ما قدر لهم الحرص من فرص الاحتماء طلبا للنجاة, بينما لم تشفع أقدار المدنيين العزل لهم, سوى أنها فتحت أمام الناجين بوابة الفرار, في ظروف الحرب قد يفتح الفرار أبواب جحيم جديد لكن من نوع آخر.
على هذا النحو أيضا تعاملت أرفع المنظمات الدولية في هذا العالم مع مصاب المنكوبين بالزلزال شمال غرب سورية, زلزال ترافق مع طقس مثلج وعاصف, نظر له المنكوبون بارتياب مدفوع من فجيعتهم بهول المصادفة التي قد لا تحدث الا نادرا.
تحدد فرق الإنقاذ العالمية ممثلة بالهيئات والمنظمات التابعة لها, الأيام الثلاثة الأولى كفرصة ذهبية لإنقاذ أرواح العالقين تحت أنقاض منازلهم, لهذا تعالت الأصوات مطالبة بحقها بالمساعدة الضرورية لرفد الفرق العاملة بالمعدات اللازمة لتسهيل أعمال الانقاذ وتسريع وتيرتها, فالأدوات المتاحة قديمة, وغير مهيأة للتعامل مع هكذا موقف, أضيف إلى هذا تهالك ما تبقى من مستشفيات سبق لها أن نجت من التداعي نتيجة قصف الطائرات الحربية لها, مستشفيات يقوم عملها على ما تيسر لها من المساعدات الطبية الإسعافية, لكنها طوق نجاة آخر لمن أسعفه الحظ بالخروج حيا على يد الأمناء على حياتهم, ولتبرير التلكؤ طفت على السطح إثر مضي الأيام الحرجة دون أية استجابة, حجة تخرب الطرقات بسبب ما أصابها من الزلزال, لكن الغطاء لم يلبث أن سقط ليكشف ما في القدر من الزيف, في اليوم الثالث لفجيعة الكارثة لمّا سلكت على هذه الطرق قوافل تحمل جثامين أكثر من مائة ضحية قادمة من العمق التركي لتوارى الثرى في تربة الأجداد.
تركنا لوحدنا, منذ اليوم الأول لخروجنا عن سكة القطيع التي كانت قد رسمت لنا, كذلك حصل حين انقلبت المساكن على رؤوس ساكنيها بفعل زلزال شاء له أن يحدث في أحلك الظروف.
أولى القوافل الأممية تحركت قادمة, لكن في اليوم الخامس للكارثة, كانت خالية تماما من معدات الإنقاذ, الكثيرون كانوا قد غادرونا لضعف قدرتهم على التحمل, ست سيارات محملة ببعض الخيام والأغطية لزوم أربعة ملايين من المنكوبين أصلا بفعل التهجير القسري وفقدانهم لمصادر رزقهم التي كانوا يعملون بها سابقا, جلهم من القرويين الذين يمتهنون الزراعة, أو ممن امتلكوا محلات صغيرة, أو موظفين أصبحت وظائفهم وكامل حقوقهم خلف ظهورهم يوم الترحيل.
كانت أصوات الاستغاثة ترتفع محذرة من نفاد المخزون الغذائي أيضا, المتوفر منه لن يكفي لأكثر من أياممعدودة.
صفعة المساعدات الأممية المدوية حصلت حين علم الجميع أن القافلة كانت معدة للدخول قبل وقوع الكارثة بأيام, هنا يبدو أن التلكؤ هو جزء أساسي من خطط العمل, وتلت قافلة الأمم التي لا تغني من جوع, ولم تحم من الصقيع القارص , زيارة غير مستحبة لمن قذف بهذه الجموع بعيدا عن أرضها وملاعب أطفالها, زيارة فاقمت الألم, وجرحت الشمال بأهله ونازحيه في الصميم, بل جرحت غالبية السوريين, لكنها رسالة مدمجة توضح كيف تلوث السياسة ضمير الإنسانية.
تقاطرت بعد مرور اليوم السابع, بعد انتهاء مهلة آخر فرص العالقين بالنجاة, قوافل مساعدات استطاعت تخطي المعوقات, جلها كان من دول شقيقة, لا فضل لمنظمات عالمية عليها.
يحتاج المرفهون إلى سعة خيال تفوق الخيال ليتسنى لهم تلمس معاناة من يمضون ليالي ونهارات الصقيع في العراء, حزانى على فقد أحبتهم, جائعون, يعانون من وطأة البرد الشديد, مذعورون مما قد يلي الكارثة من أهوال أخرى لم تدخل في الحسبان, بينما قلب العالم صلد لا يلين.
كان العالم مشغولا بتدبير أمر تحقيق مصالحه, خاصة أن الفرصة جاءتهم بشكل مباغت, وعليهم تحديد خطوة البداية, ثم خطوات النهاية التي تفضي إلى نجاح لا يجب أن يخسروه, نجاح بني كما حدث سابقا على حساب أرواح من وضعوا على قوائم الموت, لكن وياللعجب فقد نجا منهم الكثير.
لكن الأسوأ لم يأت بعد. فها هي كواليس السياسة تعمل بكامل طاقتها الآن, اجتماعات ومؤتمرات, وزيارات رسمية وغير رسمية, هدفها البحث عن حل “يرضي كل السوريين” دون أن يكون بينهم سوريا واحدا, بينما نسأل نحن عن سبب هذا الإقصاء , فتأتينا آلاف الإجابات, دون أن نلحظ بينها إجابة واحدة تعني أن كل هذا يبنى من أجلنا, وأنه ترتيب يتم لحماية مصالحنا كما يجب, أما بقية الأجوبة فلها قنواتها الخاصة التي تصب فيها.
منذ البداية سارت الأمور على نحو مغاير لشرط حقوق الإنسان عبر السكك الديبلوماسية, ولشرط طبيعة العلاقات الإنسانية عبر فضاء العرف الممهور ببصمة التاريخ منذ فجر الوجود البشري على هذه التعيسة المسماة الأرض, “الخطأ لهم, والاعتذار شرط علينا”.
عذرا “إيكاروس” أيها الفار من التبعية, المفتون بالحرية حتى الهلاك, الحياة مازالت تمضي قدما بينما تغوص انت في عمق اللجة, ولا أحد يبالي, عذرا لقد ساءت الأمور أكثر منذ فجيعة فقدك, فالعالم كل العالم أصبح لا يبالي الا بتعمير مآربه.