أنا من المعجبين بسينما أيام زمان وعصر أفلام الأبيض والأسود التي كنا ندمن على مشاهدتها في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وأمس شاهدت فيلما لفريد الاطرش وسامية جمال، وطوال عرض الفيلم كانت ذاكرتي تستعرض بعض طقوس الحياة اليومية بدير الزور.
في تلك الايام عندما كان حضور السينما هي متعتنا البصرية الوحيدة قبل عصر التلفزيون والفضائيات، وكانت هناك ثلاث صالات سينمائية شتوية، وصالتان صيفيتان في الهواء الطلق، هما سينما ‘فؤاد’ وسينما ‘القاهرة’، وكان لهما مكانة متميزة في الذاكرة الديرية، حيث كانتا تطلان على نهر الفرات العظيم، ومهما حاولت وصف متعة المشاهدة في الصالتين فلن أقارب الحقيقة.
في كل منهما يوجد بلكونات تتوزع فيها مجموعة من المقصورات تتسع لعدد من كراسي الخيزران وتكون المكان المفضل لشلل الاصدقاء والعائلات في بعض الاحيان. ويضاف الى ذلك عدد من المتفرجين بالمجان الذين يتسلقون الشجرة الباسقة التي تنتصب أمام مدخل السينما التي يمكن مشاهدة شاشة السينما منها بوضوح.
بجوار كل من الصالتين كان هناك مطعم يقدم (الكباب الديري) الذي يتميز بمذاقه المحبب لكل الديريين، وكان تناول الكباب أثناء مشاهدة الفيلم أحد الطقوس التي كنا نمارسها بمتعة في كل مرة ندخل فيها الى السينما.
أمام مدخل السينما كانت تتوزع عربات باعة البزر الاسود المسلوق (بزر الدبشي) أي بزر البطيخ الاخضر، الذي يحبه الكبار والصغار بديرالزور، وهناك عربات باعة (العوين المسلوق والمملح) وهو اللوبياء الخضراء، وكان تناول البزر والعوين جزءاً من متعة دخول السينما الصيفية.
أفلام فريد الاطرش وعبد الوهاب وعبدالحليم حافظ، بسبب الاعجاب باغانيهم، كانت تحقق نسبة مشاهدة عالية ولها جمهور عريض من الناس، خاصة في الصالات الشتوية التي تقدم حفلات خاصة للنساء بعد ظهر أيام الاثنين والخميس من كل اسبوع.
تبلغ درجات الحرارة أعلى معدلاتها في صيف دير الزور في النهار، ولم تكن هناك مكيفات وكانت المراوح وخاصة السقفية منها هي الوسيلة الوحيدة للتخفيف من وهج الحرارة، الذي يجعل اقدامنا تغوص في اسفلت الشوارع في ساعات الظهيرة.
بعض النسائم العليلة تتسلل الى ليل دير الزور التي تجعل منه مناسبة لكل أهل الدير للتنزه فوق (الجسرالمعلق) ذهاباً وإياباً وعلى إمتداد الشارع المحاذي لنهر الفرات، وعلى جوانب النهر الصغير تنتشر (الشراديق) وهي مقاه صيفية مكشوفة حيث تشكل المكان الأثير لكل الديريين.
صور الجسر المعلق الذي دمره الإجرام لا تزال تسكن ذاكرة وقلوب الديريين كما دمر أغلب مناطق دير الزور وشرد أهلها على امتداد الأرض السورية.
عندما كنت أقف في منتصف جسر دير الزورالمعلق – بين الدنكة الثانية والثالثة – قبل الغروب بدقائق كانت عيناي تتمتعان برؤية أجمل مشهد يمكن أن تراه العين البشرية في اللحظة التي يوشك فيها نصف قرص الشمس على الغرق في مياه الفرات العظيم، بينما تنعكس صورة النصف الآخر على سطح النهر على إمتداد مسافة الرؤية بألوان تعجز كل مفردات اللغة عن وصفها، هي خليط من اأوان الشمس الغاربة بتدرجات بين اللون الأصفر والأحمر وخليط لوني حي يعجز أي فنان محترف في وصفه أو رسمه، وكنت أحصد الفشل دائما عندما أحاول عبثأ الإمساك بنصف القرص المتبقي من الشمس لتثبيت المشهد وإطالة متعتي البصرية به.
مفارقة عجيبة أن المستعمر الفرنسي انجز بناء الجسر ودشنه عام 1931 وأطلق عليه أهل المدينة إسم (الجسر الجديد) الذي حمل هذا الاسم حتى قام بتدميره (الحكم الوطني) عام 2013 واصبح إسمه (الجسر الشهيد).
الصدفة المضحكة – ولعلها المبكية في أن واحد – وهي الربط ما بين تاريخ تشييد الجسر في عام 1931 وتاريخ تدميره عام 2013، هو تشابه الخانتين الأخيرتين 31 و13 ومع الشؤم المتداول للرقم الاخير يمكن تحديد عمر الجسر بـ82 عاماً، ومفارقة أخرى رواها لي أحد الاصدقاء أن (المستعمرالفرنسي الغاشم) قبل رحيله ترك قطعاً ومواد حديدية في أحد المستودعات للطوارئ لإستعمالها في حال حصول أي عطل في تمديدات قضبان ومفاصل الجسر، تمت سرقتها منذ سنوات من قبل (البعض) وبيعها كخردة لحسابهم.
عروس الفرات الشهيدة، ستعود كما كانت بهمة شبابها وسيعيدون بناء جسرها ولن تستطيع أي قوة أن تنال من كرامة أهلها الذين يعتزون بمدينتهم دير الزور .
صحيفة (القدس العربي) بعددها الصادر بتاريخ 6 تشرين الثاني 2013