يفرض عالمنا المعولم على البشر التعايش مع بعضهم بعضاً بسلام لا يخلو من تناحرات، يُؤمل أن تكون محدودة، لا تتمدّد إلى حروب وثورات وفوضى، كما حال عالمنا في بداية هذا القرن. كان المتوقَّع أن يشكّل قطيعة مع ما سبقه من حروب وثورات، فإذا به استمرار لها، وكأنه تصفية حساب، لكنه كما يبدو فتح حساباً جديداً، يحيل البشرية إلى مأزق خطير، يعطّل نشدانها سلاماً سيكون مستحيلاً في ظل صراعات دول كبرى، ابتكرت حروباً بالوكالة، تتعدّاها إلى صراعات بين الثقافات والمفاهيم الأخلاقية.
إذا كان للنوع البشري الاستمرار كحضارة إنسانية، فلنقل نحن أمام امتحان لا شك في أن للقيم نصيباً كبيراً فيه. المؤسف أنّ هذا العنصر الذي يظهر على السطح تتحكم به الطموحات والأطماع، يشكّل عقبة كبرى بين الدول والمجتمعات والأفراد، ليس من حضوره المفتعل، بل من غيابه الواقعي. إن لم يُؤخذ بالاعتبار، فالتدمير الذاتي الذي ينغل في الإنسان لن يتوقف، وفي سبيله إلى انفجار يطيح بما قد يُدعى حضارة إنسانية يتآكلها الفساد.
يحاول الغرب فرض القيم التي يتبنّاها على العالم بموجب أنها قيم كونية، ما يشكّل تحايلاً على القيم نفسها، فالقيم حالياً في عصرنا هذا، نتشارك فيها، لكن ليس كلّها، وبما أننا بشر ليس هناك قادم من كوكب آخر، ما يجمعنا أكثر مما يفرّقنا، لكن محاولة فرض هذا القليل، قد يصبح كبيراً، ما يضاعف الشقاق بين الشعوب، فلم تكن يوماً القيم كونيةً حتى عندما كان لدى الغرب القوّة لفرضها وتعميمها، ليس لأنها كاذبة وغير مقنعة، بل لأنها استُخدمت بهدف السيطرة، فشرّعت الاستعمار على أساس مفهوم مختلق عن التحضّر، استغلّت فيه المسيحية، باعتبار أنها هوية الغرب، أدّى استخدامها إلى تستّر بدعة التحضّر بالدين، حسب مفهوم استعماري، كان واحداً من معانيه الكبرى تشريع الرق، فتقدّمت الحضارة على جثث الشعوب واستعبادها.
استمرّ هذا الادعاء، تحت مسمّيات عدّة، بالتفوّق العرقي، ثم أصبح أكثر تهذيباً، فدُعي بالتقدّم التقني، وحقوق الإنسان، كذلك تحرير المرأة، والتحرّر الجنسي، ومؤخّراً معاداة الإسلام بدعوى الإرهاب. أصبحت القيم الكونية مسوّغاً لتبرير التدخّلات العسكرية. فصدّق العالم أنّ تدمير العراق كان بسبب النظام الدكتاتوري وممارسات صدام حسين الإجرامية، وهو استبداد لا يمكن إنكاره. مثلما راج أنّ قصف طالبان بسبب قمع النساء ومنعهنّ من التعليم، وشُنّت حملات على البلدان العربية من أجل حقوق المرأة ومؤخّراً المثليّين. وما زالت سارية في الغرب دعوات فرض الحضارة بالتهديد على الثقافات الأُخرى.
ما زالت سارية في الغرب دعوات فرض الحضارة بالتهديد
هذه الدعوات المرشَّحة لتُصبح قيماً كونية، لم تكن إلّا غطاء للاستيلاء على النفط وثروات البلاد والتحكّم بها وبمصائرها، ومن المهزلة أنها كانت متناقضة مع هذه الدعوات نفسها، وذلك بإسناد الحكم فيها إلى حكّام دكتاتوريّين، وغضّ النظر عن طغيانهم، مع منحهم البراءة والتعويذة المنقذة بادعاء العلمانية، لمجرّد سهولة التعامل معهم…. لذلك ما تزال الدول الشمولية تمارس جميع القيم غير الكونية، من دون أن تمسّها دعوات التحضّر الإنسانية، مع أنّها لم توفّر جريمة لم ترتكبها، يحميها نظام بوليسي من أجهزة مخابرات وجيش بلا عقيدة، ما الذي يجمعها مع الديمقراطيات الغربية، ليس أكثر من قنوات من المصالح، تتخفّى عليها علمانية بلا علمانية، تتشارك مع الغرب بأنها ضدّ الإرهاب.
ما زالت فكرة الديمقراطية الأقوى دائماً في الترويج للقيم الكونية، فالدكتاتوريات من نسل استبداد يمتّ إلى عصور سابقة، أمّا الديمقراطية فوليدة العقلانية والتوق البشري إلى العدالة، إنها خطوة رائدة نحو المستقبل في تحقيق إنسانية الإنسان وتحكمه بمصيره وهدايته إلى الحرية، وإذا كان الغرب قد دعا إليها وتعلّقت بها الشعوب فتلك دعوة كان فيها من الحقيقة ما يمسّ البشرية في الصميم ودونما تمييز، ومن شدّة ما كانت حقيقية كشفت عن النفاق الغربي، بتنصّلها منها، مثلما كان الربيع العربي كاشفاً لها، أثبت الغرب بانحيازه إلى الدكتاتوريات أنه إلى جانب الدكتاتور لا مع الشعوب، فلم يطالبه إلّا بإصلاح سلوكه، وكأن الدكتاتورية مجرّد انحراف، أو سوء تصرّف.
يحجب الغرب الديمقراطية عن هذه البلدان بحجّة أنّها غير مؤهَّلة لها، ما يؤدّي إلى استثنائها من القيم الكونية التي تتميّز بأنها ترفض إقامة الحواجز بين الثقافات، وتسعى إلى تفاهُم الثقافات لا تعارضها، ولا تفتعل الصراعات، بقدر ما تعمل على التلاقح بينها على المديين القصير والبعيد.