لا أرض هناك … لـ: نداء الدندشي

نداء الدندشي
كاتبة وباحثة سورية

توشحت الأرض بالآلام, وتفككت عرى السلام, منذ أن حملت أولى الممالك والمدن وديعة مصالحها ثيمة ارتقائها, تمدد مساحات أرضها نحو أملاك الغير, نحو الاستلاب, مبدأ يركن إلى الذات فيعزز صلفها, يجنح بقوتها عبر أنفاق لايدركها سوى من غاص عميقا في مستنقع الجحود. منذ أن سار أول فيلق للعسكر نحو أرض الغرباء للسطو على أملاك الجارات من المدن القريبة, وأبعد قليلا او كثيرا, منذ أن داهم الأمصار خارج حدود أسوار مدنه وقراه, فانقلبت حياة البشر على عقبها, وتمرد الضمير على صاحبه هاجرا إياه في مسيرة اللاعودة.

لكن الحكاية لم تقف على تخوم السطو على الأرض, بل تماهت في مسيرها نحو سطوة الملك, نحو سطوة السلطة, والسلطة أشد دهاء وفتكا, هي ان لم تجد في الجوار القريب, في أرض الجارات من المدن, وأبعد قليلا أو كثيرا, رحبا يتسع لها, صنعت لنفسها عصا لا جزرة تتوسد آخرها, بل مدية تتقن النفاذ عميقا في الصدور, أو تنطلق نحو البعيد لتبني مملكة الغل وشدة البأس, مملكة تعرف كيف توغر الصدور كل تجاه الغير, فيغلي الدم فوارا ليغطي كل أخضر يصادفه.

للمال مكانته في هذا الأتون حين تتسيد الغنائم المشهد, وتؤجج التوق للثروة, فتغل الأيدي عميقا في غير ما تملك, تسلب كد السنين حين تتماهى حدود الملك, حين تتلاشى الحواجز بعد أن تمعن فيها طعنات السلاح الساعية لخلق ممالك تتشكل بفعل آلة الفتك, وتصبح السلطة بلحظة جنون غنيمة الذين جاؤوا من البعيد, نازعين قلوبهم, حاملين مدية السفاح. يتفاقم البؤس ليس بفعل السطو وحده, بل حين, وعلى غفلة تتم استباحة قيم وأعراف بذل السابقون جهدا في ابتكار أدواتها, في بناء أول لبناتها, فالحرب نار تأتي على كل ما تلقاه أمامها, الحرب لا تبقي ولا تذر.

أعلى كومة الخراب, يرتقي المنتصرون التلة, تتراقص راياتهم فرحة, ومن تحت أقدامهم تنبعث رائحة عفن الموت, آتية من أجساد كلا الطرفين, فالموت وحد المصير, شطب رحلة حياة, وسطر أمثولته أن الألم واحد. الموت جامع, لكنه لا يوحد, فقط يميز بين قلب جامح متغطرس, وأنين وجع همس قبل أن يهوي” أهون الشرين أن لا تشعر بالظمأ لحظة تلج قدميك الصحراء, أن لا تتوه خطاك لحظة البدء”.

لم يعثر التروي على حيز حين تربص الزمان به, حين تداعت آلاف السنين, تعيد سرد حكاية السطو والملك, تعيد صيرورة الحدث بذات النوايا, المرامي, ومآلات الخراب, لا شيء تبدل حتى الآن, وحده الموت أصبح مسعورا أكثر مع تطور الأداة, مع اتقان الصنعة, ثمة لا مكان للروية, فالقتل ثيمة البناء, والاستلاب ثيمة التطور, شرط أن يحدث بعيدا, ليس في الخلاء, بل هناك حيث يقيم الغرباء, يتوسع, ينتشر, وتلوذ به مصائبه.

لا أرض لنا نزرعها قمحا, ولا شجرة زيتون نتقاسم زيتها. لا أفق يلوح بعد أن اختلف الشروق علينا, وحيرتنا تبدلات الغروب, لا شيء يشبه ما نبغيه, لا شيء يماثل ما كنا نروم إليه.

 وحده السؤال يطوف في سواد أمسياتنا: هذا العماء ترى من صنعه؟


يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية