يقول الخبر … لـ: سلوى زكزك

سلوى زكزك
كاتبة سورية

يقول الخبر: “ستة أشخاص بينهم ثلاثة أطفال قد توفوا بعد سقوطهم في مكب للنفايات، وفي تفاصيل الخبر أن القتلى وبينما كانوا يعملون في جمع القمامة انهارت كتلة النفايات من تحتهم، ما أدى لوقوعهم في حفرة كبيرة داخل المكب، ثم غمرتهم أطنان من النفايات حيث وصلوا إلى المشفى بحالة مأساوية، وأرسلت جثثهم إلى ذويهم”.

عقب كل حادثة وفاة وخاصة ما يتعلق بموت الأطفال، تندفع مشاعرنا ولغتنا أولا نحو الأم، إلا عند موت الأطفال جامعي القمامة! ستقول الغالبية: إنهم بلا أمهات أصلا وإلا لما كانوا هنا في مكب النفايات! وكأن قلوب الأمهات كفيلة بحماية أطفالها من الوجود هناك، وكأن وجود أم يعني حتما وجود الحماية والأمان والمأوى.

ما بين حاويتي قمامة ربطت الأم التي تجمع الحديد والبلاستيك حبلين متقابلين وصنعت أرجوحة لطفلها الرضيع الذي غفا على صدرها، كانت مضطرة لمتابعة عملها لتأمين أدنى مقومات الحياة، وربطت جامعة قمامة أخرى على بعد ثلاث حاويات طفلتها إلى ظهرها بقماط قماشي صنعته من ردة الطرف السفلي لجلابيتها من الخلف.

 لم أفكر بالطفلين حينها، غمرني تدفق قلبي أميهما، وبكيت، مع أنني ضبطت إحداهن تغني بصوت منكسر لابنها (يلا ينام) ظنا منها أن صوت غنائها سيبقيه نائما حتى تكمل عملها، كان صوت الأم الخافت أقوى من جلبة السيارات وزحام الشارع، كان هادرا ومضطربا كضربات قلب طفل ينام في أمان معطرا برائحة أمه ورائحة النفايات معا.

أغلبيتنا تعتقد أن الأمهات العاملات في المهن الخطرة بلا قلب، وأغلبيتنا تعتقد أن أطفال الشوارع والطفلات الخادمات في البيوت والأطفال جامعي وجامعات القمامة بلا أم.

يبقى الجسد الوحيد الغريب المسجى مذعوراً وضعيفاً وحزيناً على الفراق، يحدق طويلاً في فرصة للنجاة، فرصة تبدو أقرب إليه من علبة بسكويت منتهية الصلاحية رميت في الحاوية، وأبعد من وعد بجيب ممتلئ بثمن بخس للحياة

 من أين ستأتي تلك الأم بالشفقة؟ من يديها المشققتين من الغوص في القمامة المتحللة والمواد السامة، من تهديدات العابرين والعابرات وسكان الأبنية والعمارات؟ من سطوة الفقر والحاجة وغياب الزوج أو عجزه إن كان حيا؟ أم من ذاكرة بطش الأب وترغيب الأم: (لا إخلاص لك إلا بالزواج، تزوجي! تصبحين ملكة نفسك ويصبح بيتك مملكتك).

على حدود حاوية، وقف الشابان، فتاة وشاب لم يبلغا العشرين من العمر، وجنتا الفتاة متوردتان، يبدو أن حديث الشاب ضخ الدم ووزعه على وجنتيها، كانت تحاول مداراة خجلها منه بالتحديق في محتويات الحاوية، صرخت: انظر، يوجد علبة بسكويت جديدة! يضحك، يمسك بيدها التي أشارت بها للعلبة ويقول لها: (لا تنزلي! أنا أنزل عوضا عنك)، غمرها حنان الأرض وأيقنت أنها وجدت من سيتعب بدلا منها، من سيخوض في غمار الحاوية من أجل راحتها، فرحت وغرقت في رضى لا حدود له، لمَ لا فكل قريناتها يحلمن بالعاطفة والسند.

رغم كل الوعود لم تتوقف النساء عن جمع القمامة عقب الزواج ولا بعد الإنجاب، ولا بعد انخراط الزوج أو الأبناء في العمل، طالما كان سيل الاحتياج ممتدا وجارفا، يستنزف كل قوة مهما تضاءلت وكل نفس مهما خفت.

كنت شاهدة أكثر من مرة على أم تغسل رأس ابنها من حرارة الشمس وهما يجمعان الكرتون من أمام أفران الحلوى والكعك ومطاعم الوجبات السريعة، وأخرى تجلسه بفيء الجدار ريثما تنهي عملها في جمع القمامة، قائلة له: (سأشتري لك حليبا وكعكة يا شاطر)، هل أغبط الفتى على عاطفة أمه حينها؟ أم أهرب من مكانٍ تتنافر فيه العاطفة مع الشقاء، وتختلط الأمومة بالخوف والقسوة!

والطفلة الجميلة التي قصت لها والدتها ضفيرتها خوفا عليها من التحرش، انزلقت إلى الحاوية كغطاس ماهر وأخرجت سلسالا مقطوعا بخرزات زرقاء وقالت هذا لأمي، وعبوة طلاء أظافر زهري اللون وقالت هذه لأختي.

كيف ينمو الحب في تلك العائلات؟ وكيف تتعرف البنات إلى طلاء الأظافر وتمييز الألوان؟ لا مكان هنا لسؤال من أين تأتي القسوة والضياع والشرود والصمت والرعب.

يقول الخبر: إن جثث الضحايا قد سلمت لذويهم، فتعلق سيدة قائلة: (مليح أن لهم أهل!)، هي المفارقة الأزلية تنطبق حرفيا هنا على أجساد غضة لم تعش حتى تختبر معنى الحياة فتموت باكرا، مسرعة نحو الفناء أو العدم لا فرق، الفرق هنا أننا وعبر متابعتنا لأقسى الأخبار وأكثرها تجسيدا للظلم نتمنى وجود أهل للضحايا! ربما ستذرف الأم دمعات ترطب وحشة الغياب، ربما سيصرخ أب بعبارة: بكير يا بابا، فيتسلل الخوف الجاثم على الزمان والمكان لحظة الغرق في مكب النفايات وترتاح نفوس الموتى وكأنهم قد بلغوا الطمأنينة، وال ربما هنا هي أمنية حقيقية، الآن وفي تلك اللحظة التي تلقينا الخبر فيها، تنهض عواطفنا من سباتها العميق وتقول ما لم يقله الخبر: (يا رب يكون لديهم من يذرف دمعة على أجسادهم)، وقد نترجى أيضا تحقق أعجوبة ما بأن يصل الخبر سريعا لذويهم، وأن يصل الموتى إلى أحضان أمهاتهم في ذروة راحتهم الأبدية فتصرخ الأمهات: الحمد لله ارتاحوا من الشقاء، تؤكد أم أنها وهبتهم للموت لأنهم لم يكونوا يوما أبناء للحياة.

يقول الخبر: وتتجدد الأخبار: ويتجدد الموت والفواجع، والخبر يعبر الشاشات والزمان والمكان، ويبقى الجسد الوحيد الغريب المسجى مذعورا وضعيفا وحزينا على الفراق، يحدق طويلا في فرصة للنجاة، فرصة تبدو أقرب إليه من علبة بسكويت منتهية الصلاحية رميت في الحاوية، وأبعد من وعد بجيب ممتلئ بثمن بخس للحياة.


العربي الجديد

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية