مع توسيع الغرب دائرة العقوبات على المحيطين والمؤيدين كافةً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقريباً، أثار استثناء البطريرك كيريل استغراب كثيرين، لأنه من أهمّ الداعمين لتوجهات بوتين، ومن بينها حربه على أوكرانيا، ويتمتّع بنفوذ واسع في روسيا.
في محاولة منها لإضعاف الموقف الروسي وإعاقة تقدُّم موسكو في هجومها العسكري على أوكرانيا، فرضت الدول الغربية حزمة من العقوبات على مؤسسات ورجال أعمال وشخصيات روسية هامة، لم تتوانَ منذ سنوات في تقديم الدعم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسياساته.
وتكاد حزمات العقوبات الغربية المعلنة بشكل متواصل لا تستشني أحداً، لكنها اصطدمت في النهاية بحجر البطريرك كيريل، أهمّ الشخصيات المسيحية الأرثوذكسية في روسيا وخارجها، الذي أثار الحديثُ عن إمكانية فرض عقوبات عليه انقساماً حادّاً لدى المجتمع الغربي، انتهى بالتراجع عن إدراجه في القائمة السوداء.
البطريرك كيريل.. “بابا” بوتين
وُلد كيريل، واسمه الحقيقي فلاديمير ميخائيلوفيتش غونديايف، عام 1946، وانتخبه الأسقف بطريركاً لموسكو وسائر روسيا عام 2009، وحضر حينها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المراسم رئيساً للوزراء.
وأصبح كيريل منذ ذلك الحين القائد الروحي لنحو 110 ملايين مسيحي أرثوذوكسي حول العالم.
وساهم في إعادة هيكلة الكنيسة الأرثوذكسية، كما تولى العمل في دائرة العلاقات الكنسية الخارجية في بطريركية موسكو، لسنوات طويلة.
كان ذلك من أهمّ الأسباب التي جعلت كثيرين يشكّون في وجود علاقات تربطه بجهاز الاستخبارات السوفييتية.
وأيّد كيريل طوال سنوات خدمته توجهات وسياسات بوتين، حتى إنه بارك جميع الحروب التي شنّتها موسكو، في سوريا وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا، ودعا الروس إلى الالتفاف حول السلطة في حربها ضد من سمَّاهم في أكثر من مناسبة “قوى الشر”.
ويعتبر مختصون في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، كيريل المرشد الروحي لبوتين، ولعب في ذلك دوراً هامّاً في شدّ العصب الديني خلف المؤسسة العسكرية الروسية، ووصفه إعلاميون وسياسيون حول العالم بكونه “بابا” بوتين، والغطاء الروحي والديني له.
ولطالما جذب البطريرك الروسي انتباه وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، التي كانت تعتقد أنه يتشارك مع بوتين وجهة النظر ذاتها، التي تتمثل أساساً في ضرورة إعادة بعث الإمبراطورية الروسية، والدعوة إلى حماية المجتمع الروسي من تأثير الثقافة الغربية.
ولم يقتصر نفوذ كيريل الذي اكتسبه من كونه رئيساً للكنيسة الأرثوذكسية، على روسيا، بل تعداه إلى عدد من دول أوروبا الشرقية وبقية المجتمع المسيحي الأرثوذكسي حول العالم، إذ تتمتع 15 كنيسة أرثوذكسية بالحكم الذاتي بقيادة تسعة بطاركة يعملون كمجلس قيادة داخل الكنيسة الأرثوذكسية، وهي طائفة مسيحية تُقدَّر بنحو 260 مليون تابع في جميع أنحاء العالم. لكن تأثير كيريل يفوق البطاركة الآخرين، إذ يمثّل نحو 100 مليون أرثوذكسي في روسيا، مما يجعله أكبر سلطة قضائية أرثوذكسية.
ولعل ذلك ما يفسر الموقف المتناقض الذي اتخذه الغرب حول انتقاد كيريل أو إدراجه في القائمة السوداء للعقوبات الغربية.
انقسام غربي وأرثوذكسي حول كيريل
إلى جانب تصريحاته المثيرة للجدل حول الحرب الروسية-الأوكرانية، وموقفه الداعم لبوتين وإقناعه ملايين الأتباع بذلك، كان البطريرك كيريل يتمتع أيضاً بثروة مالية هائلة على غرار بقية الأوليغارشية الذين شملتهم العقوبات الغربية منذ بدء الهجوم العسكري في 24 فبراير/شباط.
لكن ذلك كله لم يكن كافياً لإدراج كيريل في القائمة السوداء، لأنه يمثل ملايين المسيحيين الأرثوذكس حول العالم، مما أثار انقساماً حادّاً في نقاشات “مجلس الكنائس العالمي”، ووضع بابا الفاتيكان في موقف محرج، دفعه إلى تجنب الانتقاده المباشر، وإلغاء اللقاء المقرَّر بين الاثنين في يونيو/حزيران بالقدس.
فيما تباينت المواقف داخل الكنيسة الأرثوذكسية بين مؤيّد ومعارض وآخر مبرِّر للموقف الذي اتخذه البطريرك كيريل من الحرب الروسية-الأوكرانية، الذي لم يعلن عنه إلا بعد مرور نحو أسبوعين من بدء القتال.
أما على المستوى الدولي، ففرضت أوكرانيا وبريطانيا مجموعة من العقوبات على كيريل لدعمه بوتين في هجومه العسكري على أوكرانيا، في حين تراجع الاتحاد الأوروبي عن إدراج إسمه بالقائمة السوداء، لمعارضة المجر التي اعتبرت هذه الخطوة “غير مناسبة” وتتعارض مع “المبادئ الأساسية للحرية الدينية”.
وأثار في الوقت نفسه الموقف الأمريكي حيرة مراقبي الشؤون الخارجية، إذ لم تفرض إلى الساعة أي عقوبات على البطريرك الروسي.
وعلى هذا الصعيد يعتقد بعض المحللين والمسؤولين الأمريكيين السابقين أن قضية كيريل قد تكون معقدة للغاية لأنه شخصية دينية.
وعموماً، تتجنب الولايات المتحدة معاقبة الزعماء الدينيين، جزئيّاً بسبب زعمها أن ذلك قد يقوّض ترويج أمريكا حرية التعبير والحرية الدينية، ويُعتبر اضطهاداً روحياً وثقافياً.