مآلات القتال… لـ: نداء الدندشي

نداء الدندشي
كاتبة وباحثة سورية

 لا تستجيب الحرب لنداء الرحمة, لا, ولا للرأفة, هي ليست نزهة, بل أتون يسير وفق مبدأ ” أقتل.. وإلا فستقتل”.

الاستماتة هي من تقود لظاها وتدفع بالرجال إلى أتون التهلكة, والنساء لاجترار نوائبها إثر خسائرهن التي لاتضاهى. خسارة الرجال بكل صنوف القرابة التي أفرزتها الحياة, ضياع الممتلكات ومواجهة صنوف مشقات السعي للإبقاء على الرمق الهزيل لتصنيفهن على لوائح الإنسانية, فللعالم قوائمه التي ترتب صيرورة الناس وفرزهم وفق شروط الانتماء.

للحرب قواعدها التي رسمت خلال مسيرة الإنسان عبر الزمن. منذ البدء, وضعت قيود لكبح جموحها, في نية لدفع الأذية المبالغة بعيدا, لكن الأدهى هو الذي حدث, حين تم إضفاء صفة الشرف عليها, “لا تقنص عدوك من خلف ظهره” هكذا يردد تاريخنا, وتسرده أدبياتنا لحظة سلم حين تتحدث عن شروط القتال, حين تَفتح المواجهة الحادة الباب حتى أقصى انفراجة له, ” كن رجلا” يقول المعنى. لكن المبادئ خلقت هشة, يسهل اختراقها, تجاوزها, وتبرير معانيها الحمالة أوجه أحيانا, فحين يستعر الأتون تصيب الحماسة العقل بلوثة, تذكي النار طلبا للمزيد من اللهب. ربما.. يشير ما يحدث إلى شرط الدفاع عن النفس حيث لا مجال لتجاهل ومضة الخطر, فالموت قريب, وأقرب كثيرا مما ينبغي, والحرب قيل انها عمل يبغي دفع الأذية بعيدا عن النفس, عن العائلة والجوار, لكنها وهي تمضي قدما تغوص في لجة  الجنوح, فالحرب وبكل وجوهها فعل قتل لا محال.

حين يستعر اللهب, يسعى الجمع المأخوذ بالحدث إلى انقاذ الطفولة, أجسادهم الغضة تنبئ بعجزهم, وتلوّح بعدم قدرتهم عن رد الأذى, يضيفون لهم من بلغوا من العمر عتيا. ربما, في الخفاء تم تصنيفهم كحجر عثرة تعيق المضي حتى قمة التوقد اللازم لسير الأمور كما ينبغي لها أن تكون. رفقة النساء يرسلون, حلقة أخرى تنبىء بالضعف, تنبئ بغياب الجسارة, ترفع النقاب بعيدا عما يتوارى خلف الستار من دهشة وريبة, شك ويأس, فتكشف الصورة القاتمة عن مقت النساء العميق للحروب, ذعرهن حين يشتد أوارها, ويستعر اللهب في الأرجاء. هن حلقة ضعف, لكنها تملك الأناة لشدة التحمل, لسد النقص, ومواجهة العجز حين تٌفقد بالحرب الأشياء التي كانت ركيزة أمان في صيرورة الحياة. حين تبدأ مسيرة الترحال, مسيرة اخلاء المكان وفقدان الأشياء, المنزل كمأوى يستر وحش الحاجة, العمل زوادة الحياة التي تسد الرمق, المدرسة درب الطفولة الطويل نحو بناء النفس وفهم الحياة, ركائز مستقبل الأوطان وأدوات تطورها, ركائز تجلي الحياة رفقة طموحات بسطاء الناس, نتاج سعيهم لبناء حياتهم مشفوعة بالاطمئنان, ليفتح الباب أمام التداعي باتجاه الهاوية, أمام الانزلاق نحو الجحيم, وعلى كافة المستويات, تليها في المواجة التي يقابلها مَن عَمَلَ المجتمع على نجاتهم, كارثة الفقد, فقد الرجال الذين مضوا إلى حيث يكمن الهلاك, ثم عودة بعضهم, أو العودة إليهم بعد أن أصيبوا في الأوار, تشظت بعض أطرافهم, وأخذتهم الظروف بعيدا عن رحلة الإنتاج إلى حيث الحاجة للمساعدة, للمعونة, لمدارات الوجع حين تضطرب العواطف لحظة المواجهة مع تعاطف الغرباء, قسوة الحاجة للإتكال على الغير, ويجلل هذا شعور مهين لقمة الألم, فقد الإنسان لطرفه الذي تشظى لحظة احتدام الأتون, اشتياق المرء لجسده القديم الذي تشظى لحظة تماهي العدو بحقده مدفوعا برغبة شرهة للتخلص من خصم أسياده, فقانون الحرب, رئيس يوجه ومرؤوس ينفذ, هي سيد وعبد يخشى من زوال مكاسب تم المن عليه فيها, بعيدا عن كرامته, ونبذا لإنسانيته لقاء مكسب لن تصيبه منه ذرة فضيلة. هنا تبدو جلية للعيان دوامة التيه في مستنقع الولاء, ووحل الانتماء, فيصبح التماهي بالغرق هو مطلب النجاة, أو اختيار الفرار بعيدا في سبيل النفاد بالروح إلى ضفة أخرى, في سعي مشكوك ببلوغه نهاية تضمن السلامة, في ارتحال يرافقه الوجل للحصول على مكسب الأمان نهاية المطاف, وربما بعضه. فرار يليه سعي حثيث للنجاة إلى حيث لا قتال, لكن هيهات, قد ينجو الجسد من قاصديه, لكن قدر النفس يتجلى بالا تبلغ النجاة, حين تبقى أسيرة ما مر عليها, وما حدث لها.

يبالغ المعتدي في التبرير, في الرياء, يماطل جرحه النازف حين تصّلُ المدية في العمق, يكابر لكنه لا ينجو الا للولوج عميقا في رمال لا تلبث أن تمضي به إلى أتون اللا خلاص.

مكاسب الحروب خسائر للروح حين تتبدل منذ البدء أهواء النفس, تتغير الدروب التي كانت تسعى فيها الرغبات والأمنيات قبل أن يتقد الأتون, حين تجنح النفس بعيدا عن ذاتها, أو توغل عميقا في درك السوء, لتلحق بركب من يطفو على سطح البحيرة المخضبة بالدماء, الآسنة بكل رزايا المكاسب, وطرق الاتجار بكل شيء تطاله يد من كان بالأمس منبوذا, ثم فجأة صنعت منه الحرب سيدا يتقن فن السلاح. لا فرق ان هوى من شدة بأسه صديق له, قريب, أو عدو, فجميعهم سواء. هذه مفرزات منطق الخراب الذي تأتي به الحروب. منطق الحرب التي تمقتها النساء.


نداء الدندشي


كاتبة وباحثة سورية، درست التاريخ والآثار في جامعة دمشق، عملت أمينة متحف حمص من 1988إلى 2009.
من مؤلفاتها:
(حمص… لما اكتملت)
( متحف حمص في مهب السؤال ) – تحت الطبع

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية