بينما نصادف عشرات الأعمال الدرامية في هذا الشهر، وننحاز سلبًا أو إيجابًا مع الجدل الذي قد تثيره، وقبل فترة بسيطة أثار فيلم “أصحاب ولا أعز” جدلًا مماثلًا، تأتي أسئلة مثل:
ما الحقيقي في هذه الأعمال؟
وما المقتبس؟
وما المكرر من أعمال سابقة؟
وما الجديد الذي يقدمه كل منها؟
طبعًا، نريد عملًا مقنعًا، وهذا ليس سهلًا في عالم الدراما عندما يُحشر ممثلون، وتطرح أفكار -سواء أكانت تروق لنا أم لا- بنحو قسري. أما في الروايات التي تبدو خارجة من نشرات الأخبار، لنرى البطل هاربًا من التنظيمات المسلحة إلى أوروبا، أو نراه بصورة ناجٍ سعيد! مم؟ وهل نجا أحد حقًا؟
وحتى من يكتب روايات مختلفة يركز الإعلام على عمله الذي يعكس الصورة المصطنعة أكثر من غيره، حتى نصل أحيانًا إلى قناعة أن معظم الأعمال غير أصيلة، والجيد منها سيضيع بين ظواهر الإعلام وفقاعاته.
لسنا في زمن ركود يتيح للشخصيات أن تنمو وتكتسب ملامح واضحة، نحن مهمشون، نرفض الواقع جذريًا، وهذا هو المريض النفسي بكل بساطة: الشخص غير المتوافق مع الواقع والمجتمع، وغير الفعال، أو ما تسميه الكاتبة نسرين النقوزي “المنكوح”.
تهميش الشباب حد غياب الحياة، وغياب الأمل، وشعور الاغتراب، والمشكلات النفسية... تتكرر في أعمال الشباب في السنوات الأخيرة، ولا يمكن حصر تلك الأعمال، ولا نقصد الأعمال الأدبية فحسب، بل اللافتات والأغنيات والمنشورات بأنواعها.
وعندما صدرت هذه الرواية وحققت صدى جيدًا، أتى السؤال: ما الجديد الذي قدمته؟
وما الذي تقوله تلك الصفحات القليلة وعجزت عنه كل تلك الصرخات والكتابات في السنوات الماضية؟
وهل الأدب موضة حتى نطالبه بجديد، أم هو فقط فهم للموجود المتوفر حد الغثيان؟ هل هو ابتكار في الهواء أم خلق صورة أوضح من خيوط متشابكة ومرمية؟
“المنكوح” لا تتحدث عن فتاة تهرب من القبيلة أو تنظيم مسلح، وليست رواية تدافع بنحو أعمى عن طرف ضد آخر، إنها مكتوبة بذكاء وإيجاز بل بنزق واضح، وبطليها شاعر مثقف يخدم في الجيش السوري (حسان)، الذي يرفض السلطة الأبوية التي أثقلت على حياته ودمرتها، «ولو انتهت الحرب في سوريا، ماذا سأكسب! ماذا سنكسب وقد خسرنا كل شيء»، والآخر طالب جامعة أمازيغي (مجيد من الجزائر)، حشاش منبوذ سكير زنديق مدمن على الاستمناء، يعيش مع سبع قطط وكلب وديك وله حبيبة وأربع أصدقاء حالهم أسوأ من حاله، وفي النهاية تضيع الحدود بين مجيد وبين كلبه، ولا تستطيع تمييزهما عن بعضهما.
شابان بعيدان جغرافيًا، أحدهما في مشرق الوطن العربي والثاني في مغربه، وكل منهما فرض عليه واقع قاس، ولا تسعى الرواية لتقديم نماذج مشوهة، بل ببساطة هذا هو المتوفر، هذه هي الشخصيات الموجودة الآن، من أين آتي لكم بأبطال. إذن، حسان الرافض للسلطة الأبوية رغم وجوده تحت مظلتها، ومجيد الباحث عن مخرج من مأزقه الوجودي المتمثل بولادته في هذه «البقعة المنكوحة من العالم».
يُقال إن الملل دليل على أن الدماغ يعمل، فهل الكآبة كذلك؟
ما جرعة الكآبة المسموحة كي لا يصبح الشخص مريضًا نفسيًا؟
في مسلسل كسر عظم (الذي يعرض حاليًا ويحقق صدى جيدًا ومشاهدة استثنائية) يقولون إنها كآبة مصطنعة، لماذا تركنا كل دول العالم، وولدنا في بلاد وجيه وحسان.
بينما نرى رواية “المنكوح” عملًا بسيطًا خفيفًا ببطلين وبعض العابرين، غير مهتم بتكرار أية قوالب، خاليًا من الاقتباسات والحكم، إذ يكفي مجيد وعباراته الرافضة الواضحة النزقة الساخطة، وأقصى ما يمكن أن يحدث هو نقل حسان لهتافات من مظاهرات الجزائر ليسأل مجيد عن معناها، أو ترنم مجيد بأغنية معروفة…
يأتي عمل كسر عظم تكرارًا للأعمال السورية في السنوات الأخيرة، مثل “لعنة الطين” و”الولادة من الخاصرة” وغيرها… فنرى المسؤول الفاسد، والضابطَين الجيد والسيئ، والبنات المهذبات والعاهرات، حتى أن شخصية البنت المثقفة الفيمنست، التي كانت تمثلها سلاف فواخرجي في مطلع الألفية (مسلسل عصي الدمع، مثلًا) تتوارى، فقد جرى استبدالها بشخصية المثقفة المحافظة التي مثلتها (في كسر عظم) نادين تحسين بك، إذ نرى الأخيرة تلقي اللوم على أختها عند تعرضها للتحرش في الشارع. فعلى أمل استعادة أمجاد الدراما تكرر المسلسلات قوالبها الجاهزة، ولا تكتفي بذلك بل يستخدمون هذا العتاد الكامل لطمس التغيير الحاصل في السنوات الأخيرة.
إذن هنالك موجة فن شبابي ترفض الواقع رفضًا حادًا، رفضًا راديكاليا جذريًا، وموجة المسلسلات التي تحاول استعادة صورة مبسطة لمجتمع متجانس لا وجود له إلا في خيالات صناعها، وبينما تستند الأخيرة إلى صناعة مكرسة ومدعومة عقودًا، تبحث الأعمال الجديدة دائمًا عن أدوات جديدة وغير متوقعة.
صنعت نسرين النقوزي خلطة سحرية موفقة، أنقذت روايتها من الإهمال، ومنعتها من الوصول إلى القارئ في بعض الدول أيضًا، ليكون عملها فارقًا بين الروايات الصادرة في السنوات الأخيرة. واستعادت المسلسلات السورية كراكيب الأعمال القديمة، بدل الانطلاق بأفكار من الوضع الجديد، والتوقف عن الحلم بأن شيئًا لم يكن…
المجتمع مقسم إلى راع وقطيع ومن يرفض ذلك يصبح الكلب المذموم والمتروك: «كنت أتساءل في طفولتي لماذا جميع من يظهر في التلفاز صورُه مهزورة. فأخرج إلى الشارع وأقارن مع وجوه الناس ولا أفهم لم لا يهتزون، بعد أن كبرت عرفت أنّ فقط تلفازنا رديء الصنع والألوان. فصرت مشوشًا. وبعدها بفترة صار جميع الناس يهتزون من حولي كشخصيات تلفازنا…».
مجيد لا يحاول تغيير شيء، لا يحب القطيع ولا يحب الراعي ولا يجد حلًا، وعباراته وحواراته والمونولوجات التي كُتبَت على لسانه ولسان كلبه ولسان حسان فقط هي الرواية، لا أكثر من الرسائل المتبادلة بين الاثنين وانطباعاتهما.
الجميع مرضى؛ من تأقلم مع هذا المجتمع ومن رفضه، فالمجتمعات العربية تعيش تفسخًا هائلًا، وقد ولد هذا الجيل ليعايش هذا الواقع الكارثة، وليصبح حتى رفضه الحاد لهذا الواقع رفضًا مجانيًا، فهو لا يستطيع إيقاف هذا الانحدار المأساوي، أو إصلاحه، أو العثور على أمل أو فسحة حياة فيه.
«هل أصبح الشباب العربي كله يعيش انفصامًا! له حياتان، شخصيتان وقلبان. هل تزاوج كل عضو منه فأنجب مسخًا مشوهًا هو الأنا التي نراها الآن!».
هذه الرواية بمثابة صرخة، لن تجد فيها شيئًا كاملًا، فقط مشاهد قليلة وحوارات نزقة وحيوات مبتورة تظهر في مونولوجات قصيرة، تختزل ملايين الصرخات في السنوات الأخيرة. وتبدأ الكاتبة حربها منذ العنوان، مرورًا بالمقدمة التي تتحدى القارئ، وفي ثنايا النص كله.
«هل الكلاب المذمومة تحلم !
هل من لا ذاكرة ولا ماضي له يحلم !».
«تظنون أن الوجود ظهر لأجلكم، ستموتون أنتم وأمنياتكم الدنيئة وسيبقى الكون خالدًا. تكاد رائحة أحلامكم المتعفنة تصرع المجرات الأخرى«.
«فرقتكم فقط المراحيض، وستجمعكم قنوات الصرف الصحي إلى البحر».