مؤرخو الفيسبوك في عصر فوضى التدوين ..لـ: عمرو الملاح

عمرو الملاح
كاتب ومترجم وباحث سوري مهتم بالدراسات التاريخية والتراثية

على الرغم من كثرة مشاغلي وعدم توافر الوقت لدي لكي أهدره في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي وفي عدادها الفيسبوك، إلا أنني اطلعت بمحض الصدفة على منشور بقلم أحد المدونين ممن يشتغلون بالتاريخ، يتناول فيه مشروع سكة حديد الحجاز.

والواقع إني لم أكد أقرأ بضعة أسطر من المنشور حتى أدركت على الفور أن صاحبه لا يفقه شيئاً في التاريخ العثماني المتأخر، فعدلت عن المضي في قراءته.

ولعل من أفدح الأخطاء التي وقع فيها هذا المدون وصفه الفريق أول في الجيش العثماني صادق باشا المؤيد العظم بأنه كان والياً على دمشق (كذا!).

ومن المعروف أن صادق باشا المؤيد العظم (المتوفى سنة 1910)، وعلى الرغم من أهمية دوره في التاريخ العثماني المتأخر، إلا أنه لم يكن إحدى الشخصيات التي تعاقبت على حكم ولاية دمشق في العهد العثماني، وإنما كان مرافقاً عسكرياً للسطان عبدالحميد الثاني، الذي عهد إليه بالفعل بمهمة تمديد خط الاتصالات البرقية بين عاصمة السلطنة العثمانية اسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق مصاحباً للمواقع المرسومة لسكة حديد الحجاز، الذي كان من أهم التجهيزات والأعمال الإنشائية التي واكبت إقامة خط السكة.

تجدر الإشارة، بهذا الصدد، إلى أنه تعاقب على ولاية سورية، التي حاضرتها-عاصمتها الإقليمية دمشق، في الفترة الممتدة من الانطلاقة الفعلية لمشروع خط سكة حديد الحجاز في العام 1900 وحتى وصول أول قطار إلى المدينة المنورة في صيف العام 1908 كل من الوالي الوزير حسين ناظم باشا الذي امتدت ولايته من تموز 1897 ولغاية آذار 1906، والوزير إبراهيم شكري باشا الذي امتدت ولايته من آذار 1906 ولغاية كانون الأول 1908.

الطريف في الأمر أن المنشورات من هذا القبيل، التي يغلب عليها القص واللصق ويغيب عنها التدقيق والتمحيص والإحالات المرجعية، غالباً ما تحظى بالكثير من الإعجابات.

وإنه لأمر مؤسف أننا أصبحنا نعيش في زمن النجومية الفيسبوكية حيث بات البعض يستمدون شعورهم بالأهمية والتقدير بل والعظمة أحياناً، وإن كانت لحظية أو زائفة أو وهمية وهي إلى زوال ولو بعد حين، من عدد ما تحصده منشوراتهم من (لايكات).

يبدو أننا بتنا نعيش في عصر سمته “فوضى التدوين”، حيث يستسهل البعض انتهاج ما يسمى بــ “الاختزال” في التأريخ، وهو ما نبهت إليه غير مرة؛ فيمارسون عملية القص واللصق، وانتزاع الأحداث من سياقها، وتحميلها ما لا تحتمل.

ويحرص هؤلاء أشد الحرص على أن يخلعوا على أنفسهم أنساقا” طويلة من الألقاب العلمية، ولا يفوتهم على الإطلاق أن يمتدحوا أنفسهم ومنجزهم البحثي الموهوم، فيضفون عليه صفات من قبيل “إضافة جديدة ونوعية”، و”كشف هو الأول من نوعه” إلخ.

لا يسعني إلا أن أقول كان الله في عون جمهور هؤلاء الغفير من عامة القراء غير الاختصاصيين.

أترككم مع صورة تظهر الفريق الأول صادق باشا المؤيد العظم حينما كان ضابطاً برتبة بكباشي (مقدم) ويشغل منصب ياور (مرافق عسكري) للسلطان عبدالحميد الثاني.

يُشار إلى أن هذه الصورة الملتقطة بين عامي 1892 و1893 هي من مجموعة صور السلطان عبدالحميد الثاني [Abdülhamid II, Osmanlı padişahı, 1842-1918.]، المحفوظة في جامعة اسطنبول.


(*) ملاحظة: لا يُقصد بالمنشور مدون بعينه بقدر ما يتناول “مؤرخي الفيسبوك”، وتلكم هي ظاهرة آخذة بالتنامي في عصر باتت سمته الأبرز “فوضى التدوين”.

يقول محدّثي :
لمّا تخرج الكلمة للعلن …فلا سلطة لك عليها …
كل يرميها بسهم عينه ..

 

ماهر حمصي

إبداع بلا رتوش
إشترك في القائمة البريدية